كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَصْقَلَةَ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الْخَلِيطُ، عَنْ أَبِي الْفَيْضِ ذِى النُّونِ الْمِصْرِيِّ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ لَصَفْوَةً مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ لِلَّهِ لِخِيَرَةً مِنْ خَلْقِهِ قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا الْفَيْضِ فَمَا عَلَامَتُهُمْ؟ قَالَ: إِذَا خَلَعَ الْعَبْدُ الرَّاحَةَ وَأَعْطَى الْمَجْهُودَ فِي الطَّاعَةِ وَأَحَبَّ سُقُوطَ الْمَنْزِلَةِ، قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا الْفَيْضِ §فَمَا عَلَامَةُ إِقْبَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَبْدِ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَهُ صَابِرًا شَاكِرًا ذَاكِرًا فَذَلِكَ علَاَمَةُ إِقْبَالِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، قِيلَ: فَمَا عَلَامَةُ إِعْرَاضِ اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَهُ سَاهِيًا رَاهِبًا مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَذَاكَ حِينَ يَعْرِضُ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ كَفَى بِالْمُعْرِضِ عَنِ اللَّهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ ذِكْرِهِ، قِيلَ لَهُ يَا أَبَا الْفَيْضِ فَمَا عَلَامَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَهُ يُؤْنِسُكَ بِخَلْقِهِ فَإِنَّهُ يُوحِشُكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِذَا رَأَيْتَهُ يُوحِشُكَ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ يُؤْنِسُكَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو الْفَيْضِ: الدُّنْيَا وَالْخَلْقُ لِلَّهِ عَبِيدٌ، خَلَقَهُمْ لِلطَّاعَةِ وَضَمِنَ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، فَحَرَصُوا عَلَى مَا نَهَاهَمُ اللَّهُ عَنْهُ وَطَلَبُوا الْأَرْزَاقَ وَقَدْ ضَمِنَهَا اللَّهُ لَهُمْ، فَلَا هُمَّ فِي أَرْزَاقِهِمُ اسْتَزَادُوا، ثُمَّ قَالَ: عَجَبًا لِقُلُوبِكُمْ كَيْفَ لَا تَتَصَدَّعُ وَلِأَجْسَامِكُمْ كَيْفَ لَا تَتَضَعْضَعُ، إِذَا كُنْتُمْ تَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَتَعْقِلُونَ "
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا أَبُو بَكْرٍ الدَّيْنَوَرِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ -[344]- الشِّمْشَاطِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، يَقُولُ: " بَيْنَا أَنَا سَائِرُ عَلَى شَاطِيءِ نِيلِ مِصْرَ إِذْ أَنَا بِجَارِيَةٍ تَدْعُو وَهِيَ تَقُولُ فِي دُعَائِهَا: §يَا مَنْ هُوَ عِنْدَ أَلْسُنِ النَّاطِقِينَ، يَا مَنْ هُوَ عِنْدَ قُلُوبِ الذَّاكِرِينَ، يَا مَنْ هُوَ عِنْدَ فِكْرَةِ الْحَامِدِينَ، يَا مَنْ هُوَ عَلَى نُفُوسِ الْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ، قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنِّي، يَا أَمَلَ الْمُؤَمِّلِينَ، قَالَ: ثُمَّ صَرَخَتْ صَرْخَةً خَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، قَالَ: وسَمِعْتُ ذَا النُّونِ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى صَوَادِ نِيلِ مِصْرَ فَجَاءَنِي اللَّيْلُ فَقُمْتُ بَيْنَ زُرُوعِهَا فَإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ سَوْدَاءَ قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَى سُنْبُلَةِ فَفَرَكَتْهَا ثُمَّ امْتَنَعَتْ عَلَيْهَا فَتَرَكَتْهَا وَبَكَتْ وَهِيَ تَقُولُ: يَا مَنْ بَذَرَهُ حَبًّا يَابِسًا فِي أَرْضِهِ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، أَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُ حَشِيشًا، ثُمَّ أَنْبَتَّهُ عُودًا قَائِمًا، بَتَكْوِينِكَ وَجَعَلْتَ فِيهِ حَبًّا مُتَرَاكِبًا، وَدَوَّرْتَهُ فَكَوَّنْتَهُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَقَالَتْ: عَجِبْتُ لِمَنْ هَذِهِ مَشِيئَتُهُ كَيْفَ لَا يُطَاعُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ هَذَا صُنْعُهُ كَيْفَ يَشْتَكِي، فَدَنَوْتُ مِنْهَا فَقُلْتُ: مَنْ يَشْكُو أَمَلَ الْمُؤَمِّلِينَ فَقَالَتْ لِي: أَنْتَ يَا ذَا النُّونِ، إِذَا اعْتَلَّكَ فَلَا ت‍َجْعَلْ عِلَّتَكَ إِلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِكَ، وَاطْلُبْ دَوَاءَكَ مِمَّنِ ابْتَلَاكَ وَعَل‍َيْكَ السَّلَامُ، لَا حَاجَةَ لِي فِي مُنَاظَرَةِ الْبَطَّالِينَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
[البحر الطويل]
وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهْيِ قَرِيرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَحِلَّيْنِ تَنْزِلُ

الصفحة 343