كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، ثنا الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ الشِّكْلِيُّ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: §كُنْتُ مَعَ ذِي النُّونِ فِي تِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَبَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا بِشَخْصٍ قَدْ أَقْبَلَ فَقُلْتُ: أُسْتَاذٌ شَخَصَ، فَقَالَ لِي: انْظُرْ فَإِنَّهُ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ إِلَّا صِدِّيقٌ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ، فَقُلْتُ إِنَّهَا امْرَأَةٌ فَقَالَ: صِدِّيقَةٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَابْتَدَرَ إِلَيْهَا وَسَلَّمَ عَلَيْهَا فَرَدَّتِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَتْ: مَا لِلرَّجُلِ وَمُخَاطَبَةِ النِّسَاءِ؟ فَقَالَ لَهَا: إِنِّي أَخُوكِ ذُو النُّونِ وَلَسْتُ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ فَقَالَتْ: مَرْحَبًا حَيَّاكَ اللَّهُ بِالسَّلَامِ فَقَالَ لَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَقَالَتْ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] فَكُلَّمَا دَخَلْتُ إِلَى مَوْضِعٍ يُعْصَى فِيهِ لَمْ يَهْنِنِي الْقَرَارُ فِيهِ بِقَلْبٍ قَدْ أَبْهَلَتْهُ شِدَّةُ مَحَبَّتِهِ، وَهَامَ بِالشَّوْقِ إِلَى رُؤْيَتِهِ فَقَالَ لَهَا: صِفِي لِي، فَقَالَتْ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَنْتَ عَارِفٌ تَكَلَّمَ بِلِسَانِ الْمَعْرِفَةِ تَسْأَلُنِي؟ فَقَالَ: يَحِقُّ لِلسَّائِلِ الْجَوَابُ فَقَالَتْ: نَعَمْ، الْمَحَبَّةُ عِنْدِي لَهَا أَوَّلُ وَآخِرُ، فَأَوَّلُهَا لَهْجُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الْمَحْبُوبِ، وَالْحُزْنُ الدَّائِمُ، وَالتَّشَوُّقُ اللَّازِمُ، فَإِذَا صَارُوا إِلَى أَعْلَاهَا شَغَلَهُمْ وُجْدَانُ الْخَلَوَاتِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ، ثُمَّ أَخَذَتْ فِي الزَّفِيرِ وَالشَّهِيقِ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
[البحر المتقارب]
أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ حُبَّ الْهَوَى ... وَحُبًّا لِأَنَّكَ أَهْلٌ لِذَاكَا
فَأَمَّا الَّذِي هُوَ حُبُّ الْهَوَى ... فَذِكْرٌ شُغِلْتُ بِهِ عَنْ سِوَاكَا
وَأَمَّا الَّذِي أَنْتَ أَهْلٌ لَهُ ... فَكَشْفُكَ لِلْحُجْبِ حَتَّى أَرَاكَا
فَمَا الْحَمْدُ فِي ذَا وَلَا ذَاكَ لِي ... وَلَكِنْ لَكَ الْحَمْدُ فِي ذَا وَذَاكَا
ثُمَّ شَهِقَتْ شَهْقَةً فَإِذَا هِيَ قَدْ فَارَقَتِ الدُّنْيَا
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، ثنا الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ يَقُولُ: وُصِفَ لِي رَجُلٌ بِشَاهَرْتَ فَقَصَدْتُهُ فَأَقَمْتُ عَلَى بَابِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي هَرَبَ مِنِّي، فَقُلْتُ لَهُ: سَأَلْتُكَ بِمَعْبُودِكَ إِلَّا وَقَفْتَ عَلَيَّ وَقْفَةً، فَقُلْتُ سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ §بِمَ عَرَفْتَ -[349]- اللَّهَ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ تَعَرَّفَ إِلَيْكَ اللَّهُ حَتَّى عَرَفْتَهُ؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ، رَأَيْتُ لِي حَبِيبًا إِذَا قَرُبْتُ مِنْهُ قَرَّبَنِي وَأَدْنَانيِ، وَإِذَا بَعَدْتُ صَوَّتَ بِي وَنَادَانِي، وَإِذَا قُمْتُ بِالْفَتْرَةِ رَغَّبَنِي وَمَنَّانِي، وَإِذَا عَمِلْتُ بِالطَّاعَةِ زَادَنِي وَأَعْطَانِي، وَإِذَا عَمِلْتُ بِالْمَعْصِيَةِ صَبِرَ عَلَيَّ وَتَأَنَّانِي، فَهَلْ رَأَيْتَ حَبِيبًا مِثْلَ هَذَا؟ انْصَرِفْ عَنِّي وَلَا تَشْغَلْنِي ثُمَّ وَلَّى وَهُوَ يَقُولُ:
[البحر البسيط]
حَسْبُ الْمُحِبِّينَ فِي الدُّنْيَا بَأَنَّ لَهُمْ ... مِنْ رَبِّهِمْ سَبَبًا يُدْنِي إِلَى سَبَبِ
قَوْمٌ جُسُومُهُمُ فِي الْأَرْضِ سَارِيَةٌ ... نَعَمْ وَأَرْوَاحُهُمْ تَخْتَالُ فِي الْحُجُبِ
لَهْفِي عَلَى خَلْوَةٍ مِنْهُ تُسَدِّدُنِي ... إِذَا تَضَرَّعْتُ بِالْإِشْفَاقِ وَالرَّغَبِ
يَا رَبِّ يَا رَبِّ أَنْتَ اللَّهُ مُعْتَمَدِي ... مَتَّى أَرَاكَ جِهَارًا غَيْرَ مُحْتَجِبِ

الصفحة 348