كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

قَالَ: وَسَمِعْتُ ذَا النُّونِ يَقُولُ: سُئِلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ السَّفَلَةِ، فَقَالَ: «§مَنْ لَا يُبَالِي مَا قَالَ وَلَا مَا قِيلَ فِيهِ»
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، ثنا سَعِيدُ بْنُ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى مُتَعَبِّدَةٍ، فَقُلْتُ لَهَا: كَيْفَ أَصْبَحْتِ؟ قَالَتْ: «§أَصْبَحْتُ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى فَنَاءٍ، مُبَادَرَةً لِلْجِهَازِ، مُتَأَهِّبَةً لِهَوْلِ يَوْمِ الْجَوَازِ، أَعْتَرِفُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِتَقْصِيرِي عَنْ شُكْرِهَا، وَأُقِرُّ بِضَعْفِي عَنْ إِحْصَائِهَا وَشُكْرِهَا، قَدْ غَفَلَتِ الْقُلُوبُ عَنْهُ وَهُوَ مُنْشِئُهَا، وَأَدْبَرَتْ عَنْهُ النُّفُوسُ وَهُوَ يُنَادِيهَا، فَسُبْحَانَهُ مَا أَمْهَلُهُ لِلْأَنَامِ مَعَ تَوَاتُرِ الْأَيَادِي وَالْإِنْعَامِ»
قَالَ: وَسَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: " §بَيْنَا أَنا أَسِيرُ فِي بِلَادِ الشَّامِ إِذَا أَنَا بِعَابِدٍ خَرَجَ مِنْ بَعْضِ الْكُهُوفِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ اسْتَتَرَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَشْجَارِ ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَ سَيِّدِي مِمَّنْ يَشْغَلُنِي عَنْكَ يَا مَأْوَى الْعَارِفِينَ وَحَبِيبَ التَّوَّابِينَ وَمُعِينَ الصَّادِقِينَ. وَغَايَةَ أَمَلِ الْمُحِبِّينَ. ثُمَّ صَاحَ: وَاغَمَّاهُ مِنْ طُولِ الْبُكَاءِ وَاكَرْبَاهُ مِنْ طُولِ الْمُكْثِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ أَذَاقَ قُلُوبَ الْعَارِفِينَ بِهِ حَلَاوَةَ الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ فَلَا شَيْءَ أَلَذُّ عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِهِ وَالْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاتِهِ، ثُمَّ مَضَى وَهُوَ يَقُولُ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ. فَنَادَيْتُهُ: أَيُّهَا الْعَابِدُ قِفْ لِي، فَوَقَفَ لِي وَهُوَ يَقُولُ: اقْطَعْ عَنْ قَلْبِي كُلَّ عِلَاقَةٍ وَاجْعَلْ شُغْلَهُ بِكَ دُونَ خَلْقِكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ سَأَلْتُهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِي فَقَالَ: خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكَ مُؤَنَ نَصَبِ السَّيْرِ إِلَيْهِ، وَدَلَّكَ عَلَى رِضَاهُ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عِلَاقَةٌ، ثُمَّ سَعَى مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ كَالْهَارِبِ مِنَ السَّبْعِ "
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُذَكِّرِ، عَنْ بَعْضِ، أَصْحَابِهِ، قَالَ: قَالَ ذُو النُّونِ لِفَتًى مِنَ النُّسَّاكِ: §يَا فَتًى، خُذْ لِنَفْسِكَ بِسِلَاحِ الْمَلَامَةِ، وَاقْمَعْهَا بَرَدِّ الْظَلَامَةِ تَلْبَسْ غَدًا سَرَابِيلَ السَّلَامَةِ، وَاقْصُرْهَا فِي رَوْضَةِ الْأَمَانِ وَذَوِّقْهَا مَضَضَ فَرَائِضِ الْإِيمَانِ تَظْفَرْ بِنَعِيمِ الْجِنَّانِ، وَجَرِّعْهَا كَأْسَ الصَّبْرِ، وَوَطِّنْهَا عَلَى الْفَقْرِ حَتَّى تَكُونَ تَامَّ الْأَمْرِ. فَقَالَ لَهُ الْفَتَى: وَأَيُّ نَفْسٍ تَقْوَى عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ: نَفْسٌ عَلَى الْجُوعِ صَبَرَتْ، وَفِي سِرْبَالِ الظَّلَامِ خَطَرَتْ، نَفْسٌ -[357]- ابْتَاعَتِ الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا بِلَا شَرْطٍ وَلَا ثُنْيَا، نَفْسٌ تَدَرَّعَتْ رَهْبَانِيَّةَ الْقَلَقِ، وَرَعَتِ الدُّجَى إِلَى وَاضِحِ الْفَلَقِ، فَمَا ظَنُّكَ بِنَفْسٍ فِي وَادِي الْحَنَادِسِ سَلَكَتْ وَهَجَرَتِ اللَّذَّاتِ فَمَلَكَتْ، وَإِلَى الْآخِرَةِ نَظَرَتْ، وَإِلَى الْعَيْنَاءِ أَبْصَرَتْ وَعَنِ الذُّنُوبِ أَقْصَرَتْ، وَعَلَى الذَّرِّ مِنَ الْقُوتِ اقْتَصَرَتْ، وَلِجُيُوشِ الْهَوَى قَهَرَتْ، وَفِي ظُلَمِ الدَّيَاجِي سَهِرَتْ، فَهِيَ بِقِنَاعِ الشَّوْقِ مُخْتَمِرَةٌ وَإِلَى عَزِيزِهَا فِي ظُلَمِ الدُّجَا مُشْتَمِرَةٌ، قَدْ نَبَذَتِ الْمَعَايِشَ وَرَعَتِ الْحَشَايِشَ، هَذِهِ نَفْسٌ خَدُومٌ عَمِلَتْ لِيَوْمِ الْقُدُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ

الصفحة 356