كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

قَالَ: وَسَمِعْتُ ذَا النُّونِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: أَيُّ الْأَحْوَالِ أَغْلَبُ عَلَى قَلْبِ الْعَارِفِ السُّرُورُ وَالْفَرَحُ أَمِ الْحُزْنُ وَالْهُمُومُ؟ فَقَالَ: " §أَوْصَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ إِلَى جَمِيلِ مَا نَأْمَلُهُ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ فِي هَذَا عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَالٌ يُشَارُ إِلَيْهِ دُونَ حَالٍ، وَلَا سَبَبٌ دُونَ سَبَبٍ، وَأَنَا أَضْرِبُ لَكَ مَثَلًا: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ مَثَلَ الْعَارِفِ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَثَلُ رَجُلٍ قَدْ تُوِّجَ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ وَأُجْلِسَ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتٍ ثُمَّ عُلِّقَ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ سَيْفٌ بِشَعْرِهِ وَأُرْسِلَ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ أَسْدَانِ ضَارِيَانِ فَالْمَلِكُ يُشْرِفُ كُلَّ سَاعَةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ فَأَنَّى لَهُ بِالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ عَلَى التَّمَامِ؟ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ "
حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ، ثنا سَعِيدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: وَسُئِلَ عَنِ الْآفَةِ الَّتِي، يُخْدَعُ بِهَا الْمُرِيدُ عَنِ اللَّهِ، فَقَالَ: " §يُرِيهِ الْأَلْطَافَ وَالْكَرَامَاتِ وَالْآيَاتِ. قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا الْفَيْضِ: فِيمَ يُخْدَعُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، قَالَ: بِوَطْءِ الْأَعْقَابِ، وَتَعْظِيمِ النَّاسِ لَهُ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَجَالِسِ وَكَثْرَةِ الْأَتْبَاعِ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ وَخِدَعِهِ "
قَالَ: وَسَمِعْتُ ذَا النُّونِ وَسُئِلَ: مَا أَسَاسُ قَسْوَةِ الْقَلْبِ لِلْمُرِيدِ؟ فَقَالَ: «§بَحْثُهُ عَنْ عُلُومِ رِضَى نَفْسِهِ بِتَعْلِيمِهَا دُونَ اسْتِعْمَالِهَا وَالْوُصُولِ إِلَى حَقَائِقِهَا»
وَقَالَ: " §لَوْ أَنَّ الْخَلْقَ عَرَفُوا ذُلَّ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ لَحَثَوُا التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَفِي وُجُوهِهِمْ. فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ: رَجُلٌ مُؤَيَّدٌ. فَذَكَرْتُ لِطَاهِرٍ الْمَقْدِسِيِّ فَقَالَ: سَقَى اللَّهُ أَبَا الْفَيْضِ، حَقًّا مَا قَالَ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: لَوْ أَبْدَى اللَّهُ نُورَ الْمَعْرِفَةِ لِلزَّاهِدِينَ وَالْعَابِدِينَ وَالْمُحْتَجِبِينَ عَنْهُ بِالْأَحْوَالِ لَاحْتَرَقُوا وَاضْمَحَلُّوا وَتَلَاشَوْا حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا. قَالَ الرَّجُلُ: فَذَكَرْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ فَقَالَ: أَمَّا أَبُو الْفَيْضِ عَافَاهُ اللَّهُ فَقَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ ذِكْرِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا طَاهِرٌ فَقَالَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ ذِكْرِهِ لِرَبِّهِ، وَكُلٌّ مُصِيبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ "
حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ، ثنا سَعِيدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: " §ثَلَاثَةٌ عَلَامَاتُ الْخَوْفِ: الْوَرَعُ عَنِ الشُّبُهَاتِ بِمُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ، وَحِفْظُ اللِّسَانِ مُرَاقَبَةً لِلتَّعْظِيمِ، وَدَوَاءُ الْكَمَدِ إِشْفَاقًا مِنْ غَضِبِ الْحَلِيمِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْإِخْلَاصِ: اسْتِوَاءُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْعَامَّةِ وَنِسْيَانُ رُؤْيَتِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ نَظَرًا إِلَى اللَّهِ وَاقْتِضَاءَ ثَوَابِ -[362]- الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ بِحُسْنِ عَفْوِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِحُسْنِ الْمِدْحَةِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْكَمَالِ: تَرْكُ الْجَوَلَانِ فِي الْبُلْدَانِ، وَقِلَّةُ الِاغْتِبَاطِ لِنُعْمَاهُ عِنْدَ الِامْتِحَانِ، وَصَفْوُ النَّفْسِ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْيَقِينِ: قِلَّةُ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّاسِ فِي الْعِشْرَةِ، وَتَرْكُ الْمَدْحِ لَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَالتَّنَزُّهُ عَنْ دَمِهِمْ فِي الْمَنْعِ وَالرَّزِيَّةِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ المُتَوَكِّلِ: نَقْضُ الْعَلَائِقِ، وَتَرْكُ التَّمَلُّقِ فِي السَّلَائِقِ، وَاسْتِعْمَالُ الصِّدْقِ فِي الْخَلَائِقِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الصَّبْرِ: التَّبَاعُدُ عَنِ الْخُلَطَاءِ فِي الشِّدَّةِ، وَالسُّكُونُ إِلَيْهِ مَعَ تَجَرُّعِ غُصَصِ الْبَلِيَّةِ، وَإِظْهَارُ الْغِنَى مَعَ حُلُولِ الْفَقْرِ بِسَاحَةِ الْمَعِيشَةِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْحِكْمَةِ: إِنْزَالُ النَّفْسِ مِنَ النَّاسِ كَبَاطِنِهِمْ، وَوَعْظُهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ لِيَقُومُوا عَنْهُ بِنَفْعٍ حَاضِرٍ. . . . . وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الزُّهْدِ: قِصَرُ الْأَمَلِ، وَحُبُّ الْفَقْرِ، وَاسْتِغْنَاءٌ مَعَ صَبْرٍ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْعِبَادَةِ: حُبُّ اللَّيْلِ لِلسَّهَرِ بِالتَّهَجُّدِ وَالْخَلْوَةِ، وَكَرَاهَةُ الصُّبْحِ لِرُؤْيَةِ النَّاسِ وَالْغَفْلَةِ، وَالْبَدَارُ بِالصَّالِحَاتِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْتَّوَاضِعِ: تَصْغِيرُ النَّفْسِ مَعْرِفَةً بِالْعَيْبِ، وَتَعْظِيمُ النَّاسِ حُرْمَةً لِلتَّوْحِيدِ، وَقَبُولُ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ السَّخَاءِ: الْبَذْلُ لِلشَّيْءِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَخَوْفُ الْمُكَافَأَةِ اسْتِقْلَالًا لِلْعَطِيَّةِ، وَالْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ اسْتِغْنَاءً لِإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى النَّاسِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ حُسُنِ الْخُلُقِ: قِلَّةُ الْخِلَافِ عَلَى الْمُعَاشِرِينَ، وَتَحْسِينُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَإِلْزَامِ النَّفْسِ اللَّائِمَةِ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ كَفًّا عَنْ مَعْرِفَةِ عُيُوبِهِمْ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ: انْزِوَاءُ الْعَقْلِ لِلْمَلْهُوفِينَ، وَبُكَاءُ الْقَلْبِ لِلْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ، وَفِقْدَانُ الشَّمَاتَةِ بِمَصَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَبَذْلُ النَّصِيحَةِ لَهُمْ مُتَجَرِّعًا لِمَرَارَةِ ظُنُونِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ وَإِنْ جَهِلُوهُ وَكَرِهُوهُ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الِاسْتِغْنَاءِ بِاللَّهِ: التَّوَاضُعُ لِلْفُقَرَاءِ الْمُتَذَلِّلِينَ، وَالتَّعَظُّمُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَتَرْكُ الْمُعَاشَرَةِ لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا الْمُسْتَكْبِرِينَ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْحَيَاءِ: وِجْدَانُ الْأُنْسِ بِفِقْدَانِ الْوَحْشَةِ، وَالِامْتِلَاءُ مِنَ الْخَلْوَةِ بِإِدْمَانِ التَّفَكُّرِ، وَاسْتِشْعَارُ الْهَيْبَةِ بِخَالِصِ الْمُرَاقَبَةِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْمَعْرِفَةِ: الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ، وَالِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ -[363]-، وَالِافْتِخَارُ بِاللَّهِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ التَّسْلِيمِ: مُقَابَلَةُ الْقَضَاءِ بِالرِّضَا، وَالصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالشُّكْرُ عِنْدَ الرَّخَاءِ "

الصفحة 361