كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ - بِالْكُوفَةِ - ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّمْنَانِيُّ، ثنا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَغْدَادِيُّ الْمَكْفُوفُ، ثنا أَبُو الْفَيْضِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِصْرِيُّ، ذُو النُّونِ - سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى - قَالَ: " §رَأَيْتُ رَجُلًا فِي بَرِيَّةٍ يَمْشِي حَافِيًا وَهُوَ يَقُولُ: الْمُحِبُّ مَجْرُوحُ الْفُؤَادِ لَا رَاحَةَ لَهُ قَدْ زَحْزَحَتِ الْجَرْحَةُ الدَّوَاءَ وَأَزْعَجَ الدَّوَاءُ الدَّاءَ، فَاجْتَمَعَا وَالْقَلْبُ بَيْنَهُمَا بِحَوْلٍ يَرْتَكِضُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لِي: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا ذَا النُّونِ. قُلْتُ: عَرَفْتَنِي قَبْلَ هَذَا، قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَمِنْ أَيْنَ لَكِ هَذِهِ الْفِرَاسَةُ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ يَمْلِكُهَا لَيْسَتْ مِنِّي هُوَ الَّذِي نَوَّرَ قَلْبِي بِالْفِرَاسَةِ حَتَّى عَرَفَنِي إِيَّاكَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ سَبَقَتْ لِي، يَا ذَا النُّونِ قَلْبِي عَلِيلٌ وَجِسْمِي مَشْغُولٌ وَأَنَا سَائِحٌ فِي الْبَرِيَّةِ أَسِيرُ فِيهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مَا أَعْرِفُ بَيْتًا وَلَا يُكِنُّنِي سَقْفِي يَسْتُرُنِي مِنَ الشَّمْسِ إِذَا لَظَتْ وَيَحْفَظُنِي مِنَ الرِّيَاحِ إِذَا هَبَّتْ وَيَكْلَؤُنِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ جَمِيعًا، فَصِفْ لِي بَعْضَ مَا أَنَا فِيهِ إِنْ كُنْتَ وَصَّافًا، ثُمَّ جَلَسَ وَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: الْقَلْبُ إِذَا كَانَ عَلِيلًا جَالَتِ الْأَحْزَانُ وَالْأَسْقَامُ فِيهِ، لَيْسَ لِلْقَلْبِ مَعَ مَا يَجُولُ مِنْ أَصْلِ الْأَسْقَامِ دَوَاءٌ وَإِنْ يَسْتَجْلِبِ الْأَحْزَانَ مَنِ اسْتَجْلَبَهَا يَطُولُ سَقَمُهُ لِيَشْكُوهُ وَيَشْكُو إِلَيْهِ، فَصَرَخَ صَرْخَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لِي وَلِلشَّكْوَى، أَمَا لَوْ طَالَتِ الْبَلْوَى حَتَّى أَصِيرَ رَمِيمًا مَا تَحَرَّكَتْ لِي جَارِحَةٌ بِالشَّكْوَى "
قَالَ ذُو النُّونِ: " §فَقُلْتُ: طَرَقَتِ الْفِكْرَةُ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الرِّضَا فَمَالَتْ بِهِمْ مَيْلَةً، فَزَعْزَعَتِ الْجَوَى، وَدَكْدَكَتِ الضَّمِيرَ، فَاخْتَلَفَا جَمِيعًا، فَالْتَوَيَا فَعَرَفَتَا طَرِيقَ الرِّضَا مِنْهُمْ بِالْأُلْفَةِ إِلَيْهِ، فَوَهَبَ لَهُمْ هِبَةً ثُمَّ أَتْحَفَهُمْ بِتُحَفِ الرِّضَا، فَمَاجَتْ فِي بِحَارِ قُلُوبِهِمْ مَوْجَهٌ فَهَيَّجَتْ مِنْهَا اللَّذَّةَ لَا بَلْ هَيَّجَتْ مِنْهَا هَيَجَانَ اللَّذَّاتِ، فَشَخَصَتْ بِالْحَلَاوَةِ الَّتِي أُتْحِفَتْ إِلَى مَنْ أَتْحَفَهَا، فَمَرَّتْ تَطِيرُ مِنْ جَوْفِ الْجَوَى فَأَيُّ طَيْرَانٍ يَكُونُ أَبْهَى مِنْ قُلُوبٍ تَطِيرُ إِلَى سَيِّدِهَا، لَقَدْ هَبَّتْ إِلَيْهِ بِلَا أَجْنِحَةٍ تَطِيرُ، لَقَدْ مَرَّتْ فِي الْمَلَكُوتِ أَسْرَعَ مِنْ هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَمَنْ يَرُدَّهَا وَهُوَ يَدْعُوهَا إِلَيْهِ، لَقَدْ فَتَحَ الْبَابَ حِينَ هَبَّتْ طَائِرَةً فَدَخَلَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْرَعَ الْبَابَ لَقَدْ مَهَّدَ -[365]- لَهَا مِهَادًا، فَتَنَزَّهَتْ فِي رَوْحِ رِيَاضِ قُدْسِهِ فَهِيَ لَهُ وَمَعَهُ. فَقَالَ: يَا ذَا النُّونِ زِدْتَ الْجُرْحَ قَرْحًا، وَقَتَلْتَ فَأَوْجَعْتَ، يَا هَذَا مَا صَحِبْتُ صَاحِبًا مُنْذُ صَحِبْتُهُ أَصْحَبُكَ الْيَوْمَ. قُلْتُ: فَقُمْ بِنَا. فَقُمْنَا جَمِيعًا نَسِيرُ بِلَا زَادٍ فَلَمَّا وَغَلْنَا فِي الْبَرِيَّةِ وَطَوَيْنَا ثَلَاثًا فَقَالَ لِي: قَدْ جُعْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَقْسِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُطْعِمَكَ، قُلْتُ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَا تَسْأَلْهُ شَيْئًا إِنْ شَاءَ أَطْعَمَكَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: امْضِ الْآنَ فَلَقَدْ أُفِيضَ عَلَيْنَا مِنْ أَطَايِبِ الْأَطْعِمَةِ وَلَذِيذِ الْأَشْرِبَةِ حَتَّى دَخَلْنَا مَكَّةَ سَالِمَيْنِ، ثُمَّ فَارَقَنِي وَفَارَقْتُهُ. قَالَ يُوسُفُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ ذَا النُّونِ كُلَّمَا ذَكَرَهُ بَكَى وَتَأَسَّفَ عَلَى صُحْبَتِهِ "

الصفحة 364