كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، ثنا نَصْرُ بْنُ شَافِعٍ الْمَقْدِسِيُّ الزَّاهِدُ، ثنا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ الْإِخْمِيمِيُّ، قَالَ: قَالَ ذُو النُّونِ: " §وُصِفَ لِي رَجُلٌ بِالْيَمَنِ قَدْ بَرَزَ عَلَى الْمُخَالِفِينَ وَسَمَا عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ. وَذُكِرَ لِي بِاللُّبِّ وَالْحِكْمَةِ وَوُصِفَ لِي بِالتَّوَاضُعِ وَالرَّحْمَةِ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَاجًّا فَلَمَّا قَضَيْتُ نُسُكِي مَضَيْتُ إِلَيْهِ لِأَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِ وَأَنْتَفِعَ بِمَوْعِظَتِهِ أَنَا وَنَاسٌ كَانُوا مَعِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ مِثْلَ مَا أَطْلُبُ. وَكَانَ مَعَنَا شَابٌّ عَلَيْهِ سِيمَا الصَّالِحِينَ وَمَنْظَرُ الْخَائِفِينَ وَكَانَ مُصْفَرَّ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ، أَعْمَشَ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَمَشٍ، نَاحِلَ الْجِسْمِ مِنْ غَيْرِ سَقَمٍ، يُحِبُّ الْخَلْوَةَ وَيَأْنَسُ بِالْوَحْدَةِ، تَرَاهُ أَبَدًا كَأَنَّهُ قَرِيبُ عَهْدٍ بِالْمُصِيبَةِ أَوْ قَدْ فَدَحَتْهُ نَائِبَةٌ. فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَبَدَأَ الشَّابُّ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَصَافِحْهُ فَأَبْدَى لَهُ الشَّيْخُ الْبِشْرَ وَالتَّرْحِيبَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ جَمِيعًا، ثُمَّ بَدَأَ الشَّابُّ بِالْكَلَامِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ قَدْ جَعَلَكَ طَبِيبًا لِسَقَامِ الْقُلُوبِ، وَمُعَالِجًا لَأَوْجَاعِ الذُّنُوبِ، وَبِي جُرْحٌ قَدْ فَعَلَ، وَدَاءٌ قَدِ اسْتَكْمَلَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَتَلَطَّفَ لِي بِبَعْضِ مَرَاحِمِكَ، وَتُعَالِجُنِي بِرِفْقِكَ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: سَلْ مَا بَدَا لَكَ يَا فَتًى. فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ مَا عَلَامَةُ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْ يُؤَمِّنَهُ خَوْفَهُ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ غَيْرِ خَوْفِهِ. ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ مَتَى يَتَبَيَّنُ لِلْعَبْدِ خَوْفُهُ مِنْ رَبِّهِ؟ قَالَ: إِذَا أَنْزَلَ نَفْسَهُ مِنَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ السَّقِيمِ، فَهُوَ يَحْتَمِي مِنْ كُلِّ الطَّعَامِ مَخَافَةَ السَّقَامِ، وَيَصْبِرُ عَلَى مَضَضِ كُلِّ دَوَاءٍ مَخَافَةَ طُولِ الضَّنَا. فَصَاحَ الْفَتَى صَيْحَةً وَقَالَ: عَافَيْتَ فَأَبْلَغْتَ وَعَالَجْتَ فَشَفَيْتَ، ثُمَّ بَقِيَ -[366]- بَاهِتًا سَاعَةً لَا يُحِيرُ جَوَابًا حَتَّى ظَنَنْتُ رُوحَهُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ بَدَنِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، مَا عَلَامَةُ الْمُحِبِّ لِلَّهِ؟ قَالَ لَهُ: حَبِيبِي إِنَّ دَرَجَةَ الْحُبِّ رَفِيعَةٌ، قَالَ: فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَصِفَهَا لِي. قَالَ: إِنَّ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ شَقَّ لَهُمْ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَبْصَرُوا بِنُورِ الْقُلُوبِ إِلَى عِزِّ جَلَالِ اللَّهِ، فَصَارَتْ أَبْدَانُهُمْ دُنْيَاوِيَّةً، وَأَرْوَاحُهُمْ حُجُبِيَّةً، وَعُقُولُهُمْ سَمَاوِيَّةً، تَسْرَحُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ كَالْعِيَانِ وَتُشَاهِدُ مَلِكَ الْأُمُورِ بِالْيَقِينِ، فعَبَدُوهُ بِمَبْلَغِ اسْتِطَاعَتِهِمْ بِحُبِّهِمْ لَهُ لَا طَمَعًا فِي جَنَّةٍ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارٍ. قَالَ: فَشَهِقَ الْفَتَى شَهْقَةً وَصَاحَ صَيْحَةً كَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ. قَالَ: فَانْكَبَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ يِلْثُمُهُ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا مَصْرَعُ الْخَائِفِينَ هَذِهِ دَرَجَةُ الْمُجْتَهِدِينَ هَذَا أَمَانُ الْمُتَّقِينَ "

الصفحة 365