كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَأَنَا حَاضِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ الْحُسَيْنِ، يَقُولُ: قَالَ الْفَتْحُ بْنُ شُخْرُفٍ: " §كَانَ سَعْدُونُ صَاحِبَ مَحَبَّةٍ لِلَّهِ لَهَجَ بِالْقَوْلِ، صَامَ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى خَفَّ دِمَاغُهُ فَسَمَّاهُ النَّاسُ مَجْنُونًا لِتَرَدُّدِ قَوْلِهِ فِي الْمَحَبَّةِ، قَالَ الْفَتْحُ: فَغَابَ عَنَّا زَمَانًا وَكُنْتُ إِلَى لِقَائِهِ مُشْتَاقًا لِمَا كَانَ وُصِفَ لِي مِنْ حِكْمَةِ قَوْلِهِ فَبَيْنَا أَنَا بِفُسْطَاطِ مِصْرَ قَائِمًا عَلَى حَلْقَةِ ذِي النُّونِ فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ عَلَى ظَهْرِهِ مَكْتُوبُ: لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ. وَذُو النُّونِ يُكَلِّمُ فِي عِلْمِ الْبَاطِنِ، فَنَادَاهُ سَعْدُونُ: مَتَى يَكُونُ الْقَلْبُ أَمِيرًا بَعْدَ مَا كَانَ أَسِيرًا؟ فَقَالَ ذُو النُّونِ: إِذَا اطَّلَعَ الْخَبِيرُ عَلَى الضَّمِيرِ فَلَمْ يَرَ فِي الضَّمِيرِ إِلَّا حُبَّهُ لِأَنَّهُ الْجَلِيلُ الْعَزِيزُ. قَالَ: فَصَرَخَ صَرْخَةً خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ مِنْ غَشِيَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
[البحر الطويل]
وَلَا خَيْرَ فِي شَكْوَى إِلَى غَيْرِ مُشْتَكًى ... وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ صَبْرُ
ثُمَّ قَالَ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ غَلَبَ عَلَيَّ حَبِيبِي وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا الْفَيْضِ: إِنَّ مِنَ الْقُلُوبِ قُلُوبًا تَسْتَغْفِرُ قَبْلَ أَنْ تُذْنِبَ؟ قَالَ: نَعَمْ تِلْكَ قُلُوبٌ تُثَابُ قَبْلَ أَنْ تُطِيعَ. قَالَ أَبَا الْفَيْضِ اشْرَحْ لِي ذَلِكَ. قَالَ: يَا سَعْدُونُ أُولَئِكَ أَقْوَامٌ أَشْرَقَتْ قُلُوبُهُمْ بِضَيَاءِ رُوحِ الْيَقِينِ فَهُمْ قَدْ قَطَعُوا النُّفُوسَ مِنْ رُوحِ الشَّهَوَاتِ فَهُمْ رُهْبَانٌ مِنَ الرَّهَّابِينَ وَمُلُوكٌ فِي الْعُبَّادِ، وَأُمَرَاءُ فِي -[372]- الزُّهَّادِ لِلْغَيْثِ الَّذِي مُطِرَ فِي قُلُوبِهِمِ الْمُولَهَةُ بِالْقَدُومِ إِلَى اللَّهِ شَوْقًا فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ أَنِسَ بِمَخْلُوقٍ، وَلَا مُسْتَرْزِقٌ مِنْ مَرْزُوقٍ، فَهُوَ بَيْنَ الْمَلَأِ حَقِيرٌ ذَلِيلٌ وَعِنْدَ اللَّهِ خَطِيرٌ جَلِيلٌ، قَالَ: يَا ذَا النُّونِ فَمَتَى نَصِلُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَعْدُونُ صَحِّحِ الْعَزْمَ بِطَرْحِ الْأَذَى وَسَلِ الَّذِي بِسَيَاسَتِهِ تَوَلَّى. قَالَ الْفَتْحُ: فَأَدْخَلَ سَعْدُونُ رَأْسَهُ فِيمَا بَيْنَ الْحَلْقَةِ فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ "

الصفحة 371