كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

وَقِيلَ لَهُ: §مَا إِسْنَادُ الْحِكْمَةِ قَالَ: «وُجُودُهَا»
وَسُئِلَ يَوْمًا: فِيمَ يَجِدُ الْعَبْدُ الْخَلَاصَ؟ فَقَالَ: «§الْخَلَاصُ فِي الْإِخْلَاصِ، فَإِذَا أَخْلَصَ تَخَلَّصَ»، فَقِيلَ: فَمَا عَلَامَةُ الْإِخْلَاصِ؟ قَالَ: «إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَمَلِكَ صُحْبَةُ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا مَخَافَةُ ذَمِّهِمْ، فَأَنْتَ مُخْلِصٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى»
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ ضَوْءٍ الرَّقِّيُّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيَّ، يَقُولُ: سُئِلَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ عَنِ الْمَحَبَّةِ فَقَالَ: " §هِيَ الَّتِي لَا تَزِيدُهَا مَنْفَعَةٌ، وَلَا تَنْقُصُهَا مَضَرَّةٌ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
[البحر الطويل]
شَوَاهِدُ أَهْلِ الْحَبِّ بَادٍ دَلِيلُهَا ... بِأَعْلَامِ صِدْقٍ مَا يَضِلُّ سَبِيلُهَا
جُسُومُ أُولِي صِدْقِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى ... تَبِينُ عَنْ صِدْقِ الْوِدَادِ نُحُولُهَا
إِذَا نَاجَتِ الْأَفْهَامُ أُنْسَ نُفُوسِهِمْ ... بأَلْسِنَةٍ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ قيْلَهَا
وَضَجَّتْ نُفُوسُ الْمُسْتَهَامِينَ وَاشْتَكَتْ ... جَوًى كَانَ عَنْ أَجْسَامِهَا شَربيلُهَا
يَحِنُّونَ حُزْنًا ضَاعَفَ الْخَوْفَ شَجْوُهُ ... وَنِيرَانُ شَوْقٍ كَالسَّعِيرِ عَلِيلُهَا
وَسَارُوا عَلَى حُبِّ الرَّشَادِ إِلَى الْعُلَى ... قَوْمٌ بِهِمْ تَقْوَاهُ وَهُوَ دَلِيلُهَا
فَحَطُّوا بِدَارِ الْقُدْسِ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ ... وَفَازَ بِزُلْفَى ذِي الْجَلَالِ حُلُولُهَا "
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيُّ، ثنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَاشِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِذِي النُّونِ: كَمِ الْأَبْوَابُ إِلَى الْفِطْنَةِ؟ قَالَ " أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ: §أَوَّلُهَا الْخَوْفُ، ثُمَّ الرَّجَا ثُمَّ الْمَحَبَّةُ، ثُمَّ الشَّوْقُ. وَلَهَا أَرْبَعَةُ مَفَاتِيحَ: فَالْفَرْضُ مِفْتَاحُ بَابِ الْخَوْفِ، وَالنَّافِلَةُ مِفْتَاحُ بَابِ الرَّجَاءِ، وَحُبُّ الْعِبَادَةِ وَالشَّوْقُ مِفْتَاحُ بَابِ الْمَحَبَّةِ، وَذِكْرُ اللَّهِ الدَّائِمُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مِفْتَاحُ بَابِ الشَّوْقِ، وَهِيَ دَرَجَةُ الْوَلَايَةِ، فَإِذَا هَمَمْتَ بِالِارْتِقَاءٍ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ فَتَنَاوَلْ مِفْتَاحَ بَابِ الْخَوْفِ، فَإِذَا فَتَحْتَهُ اتَّصَلْتَ إِلَى بَابِ الْفِطْنَةِ مَفْتُوحًا لَا غُلُقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَخَلْتَهُ فَمَا أَظُنُّكَ تُطِيقُ مَا تَرَى فِيهِ حِينَئِذٍ يَجُوزُ شَرَفُكَ بِالْإِشْرَافِ وَيَعْلُو مُلْكُكَ مُلْكَ الْمُلُوكِ، وَاعْلَمْ أَيْ أَخِي أَنَّهُ لَيْسَ بِالْخَوْفِ يُنَالُ الْفَرْضُ، وَلَكِنْ بِالْفَرْضُ يُنَالُ الْخَوْفُ، وَلَا بِالرَّجَاءِ تُنَالُ النَّافِلَةُ وَلَكِنْ بِالنَّافِلَةِ يُنَالُ الرَّجَاءُ، كَمَا -[379]- أَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَبْوَابِ تُنَالُ الْمَفَاتِيحُ وَلَكِنْ بِالْمَفَاتِيحِ تُنَالُ الْأَبْوَابُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ تَكَامَلَ فِيهِ الْفَرْضُ فَقَدْ تَكَامَلَ فِيهِ الْخَوْفُ، وَمَنْ جَاءَ بِالنَّافِلَةِ فَقَدْ جَاءَ بِالرَّجَاءِ، وَمَنْ جَاءَ بِمَحَبَّةِ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ وَصَلَ إِلَى اللَّهِ، وَمَنْ شَغَلَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ بِالذِّكْرِ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ نُورُ الِاشْتِيَاقِ إِلَيْهِ، وَهَذَا سِرُّ الْمَلَكُوتِ فَاعْلَمْهُ وَاحْفَظْهُ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يُنَاوِلُهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ "

الصفحة 378