كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِيلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَضْلَ بْنَ صَدَقَةَ الْوَاسِطِيُّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، يَقُولُ: «§إِذَا اطَّلَعَ الْخَبِيرُ عَلَى الضَّمِيرِ فَلَمْ يَجِدْ فِي الضَّمِيرِ غَيْرَ الْخَبِيرِ جَعَلَ فِيهِ سِرَاجًا مُنِيرًا»
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ جَمِيلٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الشِّمْشَاطِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: " §أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُوسَى كُنْ كَالطَّيْرِ الْوَحْدَانِيِّ يَأْكُلُ مِنْ رُءُوسِ الْأَشْجَارِ وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْقَرَاحِ، إِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ آوَى إِلَى كَهْفٍ مِنَ الْكُهُوفِ اسْتِئْنَاسًا بِي وَاسْتِيحَاشًا مِمَّنْ عَصَانِي، يَا مُوسَى إِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُتِمَّ لَمَّةَ أَيِّ بِرٍّ مِنْ دُونِي عَمَلًا، يَا مُوسَى لَأَقْطَعَنَّ أَمَلَ كُلِّ مُؤَمِّلٍ يُؤَمِّلُ غَيْرِي، وَلَأَقْصِمَنَّ ظَهْرَ مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى سِوَايَ، وَلَأُطِيلَنَّ وَحْشَةَ مَنِ اسْتَأْنَسَ بِغَيْرِي، وَلَأُعْرِضَنَّ عَنْ مَنْ أَحَبَّ حَبِيبًا سِوَايَ، يَا مُوسَى إِنَّ لِي عِبَادًا إِنْ نَاجَوْنِي أَصْغَيْتُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ نَادَوْنِي أَقْبَلْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَقْبَلُوا عَلَيَّ أَدْنَيْتُهُمْ، وَإِنْ دَنَوْا مِنِّي قَرَّبْتُهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبُوا مِنِّي اكْتَنَفْتُهُمْ، وَإِنَّ وَالُونِي وَالَيْتُهُمْ وَإِنْ صَافُونِي صَافَيتُهُمْ وَإِنْ عَمِلُوا لِي جَازَيْتُهُمْ، هُمْ فِي حِمَايَ وَبِي يَفْتَخِرُونَ، وَأَنَا مُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ وَأَنَا سَائِسُ قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا مُتَوَلِّي أَحْوَالِهِمْ، لَمْ أَجْعَلْ لِقُلُوبِهِمْ رَاحَةً فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي ذِكْرِي فَذِكْرِي لَأَسْقَامِهِمْ شِفَاءٌ، وَعَلَى قُلُوبِهِمْ ضِيَاءٌ، لَا يَسْتَأْنِسُونَ إِلَّا بِي، وَلَا يَحُطُّونَ رِحَالَ قُلُوبِهِمْ إِلَّا عِنْدِي، وَلَا يَسْتَقِرُّ قَرَارُهُمْ فِي الْإِيوَاءِ إِلَّا إِلَيَّ. ثُمَّ قَالَ ذُو النُّونِ: هُمْ يَا أَخِي قَوْمٌ قَدْ ذَوَّبَ الْحُزْنُ أَكْبَادَهُمْ، وَأَنْحَلَ الْخَوْفُ أَجْسَامَهُمْ، وَغَيَّرَ السَّهَرُ أَلْوَانَهُمْ، وَأَقْلَقَ خَوْفُ الْبَعْثِ قُلُوبَهُمْ، قَدْ سَكَنَتْ -[380]- أَسْرَارُهُمْ إِلَيْهِ، وَتَذَلَّلَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَيْهِ، فَنُفُوسُهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ لَا تَسْلُو، وَقُلُوبُهُمْ عَنْ ذِكْرِهِ لَا تَخْلُو، وَأَسْرَارُهُمْ فِي الْمَلَكُوتِ تَعْلُو، الْخُشُوعُ يَخْشَعُ لَهُمْ إِذَا سَكَتُوا، وَالدُّمُوعُ تُخْبِرُ عَنْ خَفِيِّ حُرْقَتِهِمْ إِذَا كَمَدُوا، قَدَّسُوا فَرَجَ الشَّهَوَاتِ بِحَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ، فَلَيْسَ لِلْغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ مَدْخَلٌ، وَلَا لِلَّهْوِ فِيهِمْ مَطْمَعٌ وَقَدْ حَجَبَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْآفَاتِ وَحَالَتِ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّذَّاتِ، فَهُمْ عَلَى بَابِهِ يَبْكُونَ، وَإِلَيْهِ يَبْكُونَ، وَمِنْهُ يَبْكُونَ، فَيَا طُوبَى لِلْعَارِفِينَ، مَا أَغْنَى عَيْشِهِمْ، وَمَا أَلَذَّ شُرْبِهِمْ، وَمَا أَجَلَّ حَبِيبِهِمْ "

الصفحة 379