كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَصْقَلَةَ، ثنا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: «§مَنْ ذَبَحَ خِنْجَرَ الطَّمَعِ بِسَيْفِ الْإِيَاسِ، وَرَدَمَ خِنْدَقِ الْحِرْصِ ظَفَرَ بِكِيمِيَاءِ الْحِزْمَةِ، وَمَنِ اسْتَقَى بِحَبْلِ الزُّهْدِ عَلَى دَلْو الْغُرُوفِ اسْتَقَى مِنْ حُبِّ الْحِكْمَةِ، وَمَنْ سَلَكَ أَوْدِيَةَ الْكَمَدِ بِحَيَاءِ حَيَاةِ الْأَبَدِ، وَمَنْ حَصَدَ عُشْبَ الذُّنُوبِ بِمِنْجَلِ الْوَرَعِ أَضَاءَ لَهُ رَوْضَةَ الِاسْتِقَامَةِ، وَمَنْ قَطَعَ لِسَانَهُ بِشَفْرَةِ الصَّمْتِ وَجَدَ طَعْمَ عُذُوبَةِ الرَّاحَةِ، وَمَنْ تَدَرَّعَ بِدِرْعِ الصِّدْقِ قَوِيَ عَلَى مُجَاهَدَةِ عَسْكَرِ الْبَاطِلِ وَاعْتَدَلَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ، وَحَسُنَ فِي الْآخِرَةِ مَثْوَاهُ، وَمَنْ فَرِحَ بِمَدْحَةِ الْجَاهِلِ الشَّيْطَانُ ثَوَّبَهُ الْحَمَاقَةَ»
حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ، ثنا سَعِيدٌ، قَالَ ذُو النُّونِ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَيْضِ مَا التَّوَكُّلُ؟ فَقَالَ لَهُ: «خَلْعُ الْأَرْبَابِ وَقَطْعُ الْأَسْبَابِ». فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي فِيهِ حَالَةً أُخْرَى، فَقَالَ: «§إِلْقَاءُ النَّفْسِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ»
قَالَ: وَسَمِعْتُ ذَا النُّونِ يَقُولُ: «§طُوبَى لِمَنْ تَطَهَّرَ وَلَزِمَ الْبَابَ، طُوبَى لِمَنْ تَضَمَّرَ لِلسِّبَاقِ، طُوبَى لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ»
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «§مَنْ وَثِقَ بِالْمَقَادِيرِ اسْتَرَاحَ، وَمَنْ صَحَّحَ اسْتَرَاحَ، وَمَنْ تَقَرَّبَ قُرِّبَ، وَمَنْ صَفَى صُفِيَ لَهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ وُفِّقَ، وَمَنْ تَكَلَّفَ مَا لَا يَعْنِيهِ ضَيَّعَ مَا يَعْنِيهِ»
حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: " §بَيْنَا أَنَا سَائِرٌ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ عَلَى عَرِيشٍ مِنَ الْبَلُّوطِ وَعِنْدَهُ عَيْنُ مَاءٍ تَجْرِي فَأَقَمْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ -[381]- فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: شَهِدَ قَلْبِي لِلَّهِ بِالنَّوَازِلِ، وَكَيْفَ لَا يَشْهَدُ قَلْبِي بِذَلِكَ، وَكُلُّ أُمُورِهِمْ إِلَيْكَ، فَحَسْبُ مَنِ اغْتَرَّ بِكَ أَنْ يَأْلَفَ قَلْبُهُ غَيْرَكَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، لَقَدْ خَابَ لَدَيْكَ الْمُقَصِّرُونَ، سَيِّدِي مَا أَحْلَى ذِكْرِكَ، أَلَيْسَ قَصَدَكَ مُؤَمِّلُوكَ فَنَالُوا مَا أَمَّلُوا، وَجُدْتَ لَهُمْ مِنْكَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا طَلَبُوا. فَقُلْتُ لَهُ: يَا حَبِيبِي إِنِّي مُقِيمٌ عَلَيْكَ مُنْذُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَ مِنْ كَلَامِكَ. فَقَالَ لِي قَدْ رَأَيْتُكَ بِأَبْطَالٍ حِينَ أَقْبَلْتَ، وَلَكِنْ مَا ذَهَبَ رَوْعُكَ مِنْ قَلْبِي إِلَى الْآنَ. فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ وَمَا الَّذِي أَفْزَعَكَ مِنِّي؟ فَقَالَ: بِطَالَتُكَ فِي يَوْمِ عَمَلِكَ، وَشُغْلُكَ فِي يَوْمِ فَرَاغِكَ، وَتَرْكُكَ الزَّادَ لِيَوْمِ مَعَادِكَ، وَمُقَامُكَ عَلَى الْمَظْنُونِ. فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ مَا ظَنَّ بِهِ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَكَذَلِكَ إِذَا وَافَقَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالتَّوْفِيقُ، فَقُلْتُ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا حَبِيبِي، مَا هَاهُنَا فِتْيَةٌ تَسْتَأْنِسُ بِهِمْ؟ فَقَالَ: بَلَى هَاهُنَا فِتْيَةٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ. قُلْتُ: فَمَا طَعَامُهُمْ فِي هَذَا الْمَكَانِ؟ قَالَ: أَكْلُهُمُ الْفِلَقُ مِنْ خُبْزِ الْبَلُّوطِ، وَلِبَاسُهُمُ الْخِرَقُ مِنَ الثِّيَابِ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الدُّنْيَا وَيَئِسَتِ الدُّنْيَا مِنْهُمْ قَدْ لَصَقُوا بِمَقَامِ الْأَرْضِ، وَتَلفَّفُوا بِالْخِرَقِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ رِجَالًا إِذَا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ بِسَكَاكِينِ السَّهَرِ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا حَبِيبِي فَمَا مَعَ الْقَوْمِ دَوَاءٌ يَتَعَالَجُونَ بِهِ مِنَ الْأَلَمِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ الدَّوَاءُ؟ قَالَ: إِذَا أَكَلُوا أَضَافُوا مِنَ الْكَلَالِ بِالْكَلَالِ، وَجَدُّوا بِالْارْتِحَالٍ، فَتَسْكُنُ الْعُرُوقُ وَيَهْدَأُ الْأَلَمُ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا حَبِيبِي فَلَا يَسِيرُونَ بِجِدٍّ، فَقَالَ: هَذَا تَقَوُّلٌ يَا بَطَّالُ، إِنَّ الْقَوْمَ أَعْطَوُا الَجُهُودَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا دَبَرَتِ الْمَفَاصِلُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَقَرَحَتِ الْجِبَاهُ مِنَ السُّجُودِ، وَتَغَيَّرَتِ الْأَلْوَانُ مِنَ السَّهَرِ ضَجُّوا إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِعَانَةِ، فَهُمْ أَحْلَافُ اجْتِهَادٍ يَهِيمُونَ فَلَا تُقَرِّبُهُمُ الْأَوْطَانُ، وَلَا يَسْكُنُونَ إِلَى غَيْرِ الرَّحْمَنِ. فَقُلْتُ لَهُ: حَبِيبِي أَوْصِنِي، فَقَالَ لِي: عَلَيْكَ بِمَعَاقَبَةِ نَفْسِكَ إِذَا دَعْتَكَ إِلَى بَلِيَّةٍ، وَمُنَابَذَتِهَا إِذَا دَعْتَكَ إِلَى الْفَتْرَةِ، فَإِنَّ لَهَا مَكْرًا وَخِدَاعًا فَإِذَا فَعَلْتَ هَذَا الْفِعْلَ أَغْنَاكَ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ وَسَلَاكَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْفَاسِقِينَ "

الصفحة 380