كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (اسم الجزء: 9)

حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَصْقَلَةَ، ثنا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: «§إِلَهِي إِنْ كَانَ صَغُرَ فِي جَنْبِ طَاعَتِكَ عَمَلِي فَقَدْ كَبُرَ فِي جَنْبِ رَجَائِكَ أَمَلِي، إِلَهِي كَيْفَ أَنْقَلِبُ مِنْ عِنْدَكَ مَحْرُومًا وَقَدْ كَانَ حُسْنُ ظَنِّي بِكَ مَنُوطًا، إِلَهِي فَلَا تُبْطِلْ صِدْقَ رَجَائِي لَكَ بَيْنَ الْآدِمِيِّينَ، إِلَهِي سَمِعَ الْعَابِدُونَ بِذِكْرِكَ فَخَضَعُوا وَسَمِعَ الْمُذْنِبُونَ بِحُسْنِ عَفْوِكَ فَطَمِعُوا، إِلَهِي إِنْ كَانَتْ أَسْقَطَتْنِي الْخَطَايَا مِنْ مَكَارِمِ لُطْفِكَ فَقَدْ آنَسَنِي الْيَقِينُ إِلَى مَكَارِمِ عَطْفِكَ، إِلَهِي إِنْ أَمَّنَتْنِي الْغَفْلَةُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِكَ فَقَدْ نَبَّهَتْنِي الْمَعْرِفَةُ لِكَرَمِ آلَائِكَ. إِلَهِي إِنْ دَعَانِي إِلَى النَّارِ أَلِيمُ عِقَابِكَ فَقَدْ دَعَانِي إِلَى الْجَنَّةِ جَزِيلُ ثَوَابِكَ»
حَدَّثَنَا أَبِي، ثنا أَحْمَدُ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ، ثنا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ الْخَيَّاطُ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ وَسَأَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صِفَةِ الْمُهْمُومِينَ، فَقَالَ لَهُ ذُو النُّونِ: " §لَوْ رَأَيْتَهُمْ لَرَأَيْتَ قَوْمًا لَهُمْ هُمُومٌ مَكْنُونَةٌ خُلِقَتْ مِنْ لُبَابِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا وَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ إِلَى قُلُوبِهِمْ سَقَاهُمْ بِكَأْسِ سِرِّ السِّرِّ مِنْ مُؤَانَسَةِ سِرِّ مَحَبَّتِهِ فَهَامُوا بِالشَّوْقِ عَلَى وُجوهِهِمْ فَعِنْدَهَا لَا يَحُطُّونَ رِحَالَ الْهَمِّ إِلَّا بِفَنَاءِ مَحْبُوبِهِمْ فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ لَرَأَيْتَ قَوْمًا أَزْعَجَهُمُ الْهَمُّ عَنْ أَوْطَانِهِمْ وَثَبَتَتِ الْأَحْزَانُ فِي أَسْرَارِهِمْ فَهِمَمُهُمْ إِلَيْهِ سَائِرَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الشَّوْقِ طَائِرَةٌ، فَقَدْ أَضْجَعَهُمُ الْخَوْفُ عَلَى فُرُشِ الْأَسْقَامِ، وَذَبَحَهُمُ الرَّجَاءُ بِسَيْفِ الِانْتِقَامِ، وَقَطَعَ نِيَاطَ قُلُوبِهِمْ كَثْرَةُ بُكَائِهِمْ عَلَيْهِ، وَزَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْوَلَهِ إِلَيْهِ، قَدْ هَدَّ أَجْسَامَهُمُ الْوَعِيدُ، وَغَيَّرَ أَلْوَانَهُمُ السَّهَرُ الشَّدِيدُ إِلَى الْهَرَبِ مِنَ الْمَوَاطِنِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْأَعْلَاقِ إِلَى أَنْ تَفَرَّقُوا فِي الشَّوَاهِقِ وَالْمَغَائِصِ وَالْآكَامِ، أَكْلُهُمُ الْحَشِيشُ، وَشُرْبُهُمُ الْمَاءُ الْقَرَاحُ، يَتَلَذَّذُونَ بِكَلَامِ الرَّحْمَنِ يَنُوحُونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ نُواحَ الْحَمَامِ، فَرِحِينَ فِي خَلَوَاتِهِمْ لَا يَفْتُرُ لَهُمْ جَارِحَةٌ فِي الْخَلَوَاتِ، وَلَا تَسْتَرِيحُ لَهُمْ قَدَمٌ تَحْتَ سُتُورِ الظُّلُمَاتِ، فَيَا لَهَا نُفُوسٌ طَاشَتْ بِهِمَمِهَا وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَحَبَّتِهَا لِمَا أَمَّلَتْ مِنِ اتِّصَالِ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهَا، فَنَظَرَتْ فَآنَسَتْ وَوَصَلَتْ فَأَوْصَلَتْ، وَعَرَفَتْ مَا أَرَادَ بِهَا فَرَكِبَتِ النُّجُبَ وَفَتَقَتِ الْحُجُبَ حَتَّى كَشَفَتْ -[386]- عَنْ هَمِّهَا الْكُرَبُ، فَنَظَرَتْ بِهِمَمِ مَحَبَّتِهَا إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، ثُمَّ أَنْشَأَ ذُو النُّونِ يَقُولُ:
[البحر الطويل]
رِجَالٌ أَطَاعُوا اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ ... فَمَا بَاشَرُوا اللَّذَّاتِ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ
أُنَاسٌ عَلَيْهِمْ رَحْمَةُ اللَّهِ أُنْزِلَتْ ... فَظَلُّوا سُكُونًا فِي الْكُهُوفِ وَفِي الْقَفْرِ
يُرَاعُونَ نَجْمَ اللَّيْلِ مَا يَرْقُدُونَهُ ... فَبَاتُوا بِإِدْمَانِ التَّهَجُّدِ وَالصَّبْرِ
فَدَاخَلَ هُمُومَ الْقَوْمِ لِلْخَلْقِ وَحْشَةٌ ... فَصَاحَ بِهِمْ أُنْسُ الْجَلِيلِ إِلَى الذِّكْرِ
فَأَجْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ هَوْنًا مُقِيمَةٌ ... وَأَرْوَاحِهِمْ تَسْرِي إِلَى مَعْدِنِ الْفَخْرِ
فَهَذَا نَعِيمُ الْقَوْمِ إِنْ كُنْتَ تَبْتَغِي ... وَتَعْقِلُ عَنْ مَوْلَاكَ آدَابَ ذَوِي الْقَدْرِ "

الصفحة 385