كتاب فتح المنعم شرح صحيح مسلم (اسم الجزء: 9)

"لا تسبوا أحدا من أصحابي". بدون تكرير، وقد وضحت هذه الرواية المخاطب بقوله: "لا تسبوا" وهو وإن كان الضمير فيه جمعا، لكن المقصود به واحد، وهو خالد، وغيره يجري عليه النهي بطريق القياس، لأنه إذا نهى الصحابي صاحب الفضل عن أن يسب، نهى غير صاحب الفضل من باب أولى، ويحتمل أن يكون الخطاب لكل من يتأتى خطابه، في أي زمان، وأي مكان، أي لا تسبوا معشر المكلفين من المسلمين أصحابي، وقد روي أن مناقشة دارت في التفاضل بين السابقين إلى الإسلام وفضلهم، وبين اللاحقين، وكان خالد ممن تأخر إسلامهم، فغضب وسب.
(فوالذي نفسي بيده. لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) قال الحافظ ابن حجر: فيه إشعار بأن المراد بقوله "أصحابي" أصحاب مخصوصون، وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال "أحدكم" وهذا كقوله {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [الحديد: 10] ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وخاطبه بذلك، عن سب من سبقه، يقتضي زجر من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخاطبه عن سبه من سبقه من باب أولى، وغفل من قال: إن الخطاب بذلك لغير الصحابة، والمراد به من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل، تنزيلا لمن سيوجد منزلة الموجود، للقطع بوقوعه، ووجه التعقيب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك، خالد بن الوليد، وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق.
وفي رواية "لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا" وهذه الزيادة حسنة، والمد مكيال يعدل حفنة - بكف الرجل المعتدل، والنصيف بوزن رغيف هو النصف، وقيل: النصيف مكيال دون المد، وحكى الخطابي أنه روي "مد أحدهم" بفتح الميم. قال: والمراد به الفضل والطول.
قال البيضاوي: معنى الحديث: لا ينال أحدكم - بإنفاق مثل أحد ذهبا - من الفضل والأجر، ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية. قال الحافظ ابن حجر: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك، لشدة الاحتياج إليه. قلت مع ضيق ذات اليد، ووقوعه في وقت شدة وعسر.
قال: وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال، كما وقع في الآية {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} [الحديد: 10] فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته، وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيما، لشدة الحاجة إليه، وقلة المعتني به، بخلاف ما وقع بعد ذلك، لأن المسلمين صاروا كثرة بعد الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم.

-[فقه الحديث]-
قال النووي: واعلم أن سب الصحابة - رضي الله عنهم - حرام، من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب، متأولون.
قال القاضي: وسب أحدهم من المعاصي الكبائر.
واختلف في حكم من يسب الصحابة، فذهب الجمهور إلى أنه يعزر، وعن بعض المالكية يقتل،

الصفحة 590