كتاب فتح المنعم شرح صحيح مسلم (اسم الجزء: 9)

-[المعنى العام]-
نعم. حقوق الله تعالى مبنية على تفضله وعفوه ومسامحته، وقد أراد - جل شأنه - أن يقدم حقوق عباده بعضهم مع بعض، وأن يجعل طابعها المشاحة، وأول حقوق العباد حقوق الوالدين على الولد، وإذا تعارض حق الله مع حق الوالدين، قدمت الشريعة حق الوالدين، وجعلته أهم، لأن في حقهما حق الله تعالى، فهو الذي شرع لهما حقهما، فأداؤه أداء لحق الله وأمره وقضائه.
أمام هذا نجدنا إذا تعارضت الصلاة مع بر الوالدين قدم بر الوالدين. أمام هذا ومع أن الصلاة مناجاة بين العبد وربه، إذا دعت الأم ابنها الذي يصلي، كان عليه أن يقدم إجابتها على الاستمرار في الصلاة، وهذا ما لم يفعله جريج الراهب، صاحب قصة الحديث، مما دفع أمه إلى الدعاء عليه، وأجاب الله دعاءها، ولما كان مجتهدا، كان خطؤه مأجورا، فتداركته نعمة من ربه، ولحقته رحمة الله وفضله، فأنقذه بعد غرقه، وخرق له العادة، وكرمه بأن أنطق الطفل في المهد يشهد له، كما شهد صاحب يوسف ليوسف، وكما تكلم عيسى عليه السلام في المهد، يبرئ أمه ويشهد لها، وكما تكلم الطفل يرد دعاء أمه.
كرامات ومعجزات، إن دلت على شيء فإنما تدل على قدرة الله تعالى التي لا تحدها عادة، ولا يحول بينها وبين الإنجاز حائل.
ونعود إلى بر الوالدين وحقوقهما، وقد ذكرنا وذكرت الأحاديث بعضا منها في البابين السابقين، وهي هنا تربط دخول الجنة برضاهما وبرهما، وتتوعد من يعقهما بالحرمان من الجنة، وتحث من تهيأ له فرصة البر بهما، والإحسان إليهما أن ينتهز هذه الفرصة ولا يضيعها، والفرصة الحقيقية لذلك عند كبرهما وضعفهما وحاجتهما، فيا فوز من انتهزها، فأضحكهما، وسرهما، ولم يقل لهما أف، ولم ينهرهما، وقال لهما قولا كريما، وخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقال رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.

-[المباحث العربية]-
(كان جريج يتعبد في صومعة) بفتح الصاد وسكون الواو، وهي البناء المرتفع المحدد أعلاه، يقال: صمع الشيء دققه وحدده، والصومع والصومعة بيت العبادة عند رهبان النصارى، وهي تشبه الصومعة التي تبنى لخزن الحبوب، يبنيها الرهبان عادة على رأس جبل، لينقطعوا فيها للعبادة، ويصعب وصول الناس إليها، وقد يطلق عليها الدير بفتح الدال، إذا كانت متسعة.
ويبدو أنها كانت هنا كذلك، إذ في الرواية "وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره" أي يأوي إلى دير جريج "قالت: من صاحب هذا الدير" "فأخذوا يهدمون ديره" والظاهر أنه كان بعد عيسى ابن مريم، وأنه كان من أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهب وحبس النفس في الصوامع، وعند أحمد "كان رجل في بني إسرائيل تاجرا، وكان ينقص مرة، ويزيد مرة، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة، هي خير من هذه، فبنى صومعة، وترهب فيها، وكان يقال له جريج ... ". الحديث، ومعنى "يتعبد"

الصفحة 620