كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري (اسم الجزء: 9)

فرقها الْمُصدق أَرْبَعِينَ فَثَلَاث شِيَاه، وَقَالَ أَبُو يُوسُف: معنى الأول أَن يكون لرجل ثَمَانُون شَاة، فَإِذا جَاءَ الْمُصدق قَالَ: هِيَ بيني وَبَين إخوتي، لكل وَاحِد عشرُون فَلَا زَكَاة، أَو أَن يكون لَهُ أَرْبَعُونَ ولأخوته أَرْبَعُونَ فَيَقُول: كلهَا لي، فشاة. وَفِي (الْمُحِيط) : وَتَأْويل هَذَا أَنه كَانَ لَهُ ثَمَانُون شَاة تجب فِيهَا وَاحِدَة فَلَا يفرقها ويجعلها لِرجلَيْنِ فَيَأْخُذ شَاتين، فعلى هَذَا يكون خطابا للساعي، وَإِن كَانَت لِرجلَيْنِ فعلى كل وَاحِد شَاة فَلَا تجمع وَيُؤْخَذ مِنْهَا شَاة، وَالْخطاب فِي هَذَا يحْتَمل أَن يكون للمصدق بِأَن يكون لأَحَدهمَا مائَة شَاة وَللْآخر مائَة شَاة وشَاة فعلَيْهِمَا شَاتَان فَلَا يجمع الْمُصدق بَينهمَا، وَيَقُول هَذِه كلهَا لَك فَيَأْخُذ مِنْهُ ثَلَاث شِيَاه، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع بِأَن يكون لرجل مائَة وَعِشْرُونَ شَاة فَيَقُول السَّاعِي: هِيَ لثَلَاثَة فَيَأْخُذ ثَلَاث شِيَاه، وَلَو كَانَت لوَاحِد تجب شَاة، وَيحْتَمل أَن يكون الْخطاب لرب المَال، ويقوى بقوله: (خشيَة الصَّدَقَة) أَي: فيخاف فِي وجوب الصَّدَقَة فيحتال فِي إِسْقَاطهَا بِأَن يجمع نِصَاب أَخِيه إِلَى نصابه فَتَصِير ثَمَانِينَ فَيجب فِيهَا شَاة وَاحِدَة، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع بِأَن يكون لَهُ أَرْبَعُونَ فَيَقُول نصفهَا لي وَنِصْفهَا لأخي فَتسقط زَكَاتهَا. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَالْمرَاد من الْجمع والتفريق فِي الْملك لَا فِي الْمَكَان لإجماعنا على أَن النّصاب إِذا كَانَ فِي ملك وَاحِد يجمع وَإِن كَانَ فِي أمكنة مُتَفَرِّقَة، فَدلَّ أَن المتفرق فِي الْملك لَا يجمع فِي حق الصَّدَقَة. قَوْله: (خشيَة الصَّدَقَة) مِمَّا تنَازع فِيهِ الفعلان، والخشية خشيتان: خشيَة السَّاعِي أَن تقل الصَّدَقَة، وخشية رب المَال أَن تكْثر الصَّدَقَة، فَأمر كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن لَا يحدث شَيْئا من الْجمع والتفريق. قيل: لَو فرض أَن المالكين أَرَادَا ذَلِك لإِرَادَة تَكْثِير الصَّدَقَة أَو وجوب مَا لم يجب عَلَيْهِمَا التماسا لِكَثْرَة الْأجر، أَو لإِرَادَة وُقُوع مَا أَرَادَ التَّصَدُّق بِهِ تَطَوّعا ليصير وَاجِبا. وثواب الْوَاجِب أَكثر من ثَوَاب التَّطَوُّع، فَالظَّاهِر جَوَاز ذَلِك.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: النَّهْي عَن اسْتِعْمَال الْحِيَل لسُقُوط مَا كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ. وَيجْرِي ذَلِك فِي أَبْوَاب كَثِيرَة من أَبْوَاب الْفِقْه، وللعلماء فِي ذَلِك خلاف فِي التَّحْرِيم أَو الْكَرَاهَة أَو الْإِبَاحَة، وَالْحق أَنه كَانَ ذَلِك لغَرَض صَحِيح فِيهِ رفق للمعذور وَلَيْسَ فِيهِ إبِْطَال لحق الْغَيْر، فَلَا بَأْس بِهِ من ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث} (ص: 44) . وَإِن كَانَ لغَرَض فَاسد: كإسقاط حق الْفُقَرَاء من الزَّكَاة بِتَمْلِيك مَاله قبل الْحول لوَلَده، أَو نَحْو ذَلِك، فَهُوَ حرَام أَو مَكْرُوه على الْخلاف الْمَشْهُور فِي ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن من كَانَ عِنْده دون النّصاب من الْفضة وَدون النّصاب من الذَّهَب مثلا إِنَّه لَا يجب ضم بعضه إِلَى بعض حَتَّى يصير نِصَابا كَامِلا فَتجب فِيهِ الزَّكَاة، خلافًا لمن قَالَ: يضم على الْأَجْزَاء كالمالكية، أَو على الْقيم كالحنفية. انْتهى. قلت: هَذَا اسْتِدْلَال غير صَحِيح لِأَن النَّهْي فِي الحَدِيث مُعَلل بخشية الصَّدَقَة، وَفِيه إِضْرَار للْفُقَرَاء بِخِلَاف مَا قَالَه الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة فَإِن فِيهِ نفعا للْفُقَرَاء وَهُوَ ظَاهر. وَقيل: اسْتدلَّ بِهِ لِأَحْمَد على أَن من كَانَ لَهُ مَاشِيَة فِي بلد لَا تبلغ النّصاب كعشرين شَاة، مثلا بِالْكُوفَةِ، وَمثلهَا بِالْبَصْرَةِ أَنَّهَا لَا تضم بِاعْتِبَار كَونهَا ملك رجل وَاحِد وَيُؤْخَذ مِنْهَا الزَّكَاة. قلت: قد ذكرنَا عَن قريب أَن الْجمع والتفريق أَن يكون فِي الْملك لَا فِي الْمَكَان، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن الْمُنْذر: خَالفه الْجُمْهُور فَقَالُوا: يجب على صَاحب المَال زَكَاة مَاله وَلَو كَانَ فِي بلدان شَتَّى، وَيخرج مِنْهُ الزَّكَاة.

53 - (بابٌ مَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا يَترَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَا كَانَ من خليطين إِلَى آخِره، وَكلمَة: مَا، هُنَا تَامَّة نكرَة متضمنة معنى حرف الِاسْتِفْهَام، وَمَعْنَاهَا أَي: شَيْء كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان، والخليطان تَثْنِيَة خليط، وَاخْتلف فِي المُرَاد بالخليط، فَذهب أَبُو حنيفَة إِلَى أَنه الشَّرِيك، لِأَن الخليطين فِي اللُّغَة الَّتِي بهَا خاطبنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هما الشريكان اللَّذَان اخْتَلَط مَالهمَا وَلم يتَمَيَّز كالخليطين من النَّبِيذ. قَالَه ابْن الْأَثِير، وَمَا لم يخْتَلط مَعَ غَيره فليسا بخليطين، هَذَا مَا لَا شكّ فِيهِ، وَإِذا تميز مَال كل وَاحِد مِنْهُمَا من مَال الآخر فَلَا خلْطَة، فعلى قَول أبي حنيفَة: لَا يجب على أحد من الشَّرِيكَيْنِ أَو الشُّرَكَاء فِيمَا يملك إلاَّ مثل الَّذِي كَانَ يجب عَلَيْهِ لَو لم يكن خلط، وَذكر فِي (الْمَبْسُوط) ، وعام كتب أَصْحَابنَا: أَن الخليطين يعْتَبر لكل وَاحِد نِصَاب كَامِل كَحال الِانْفِرَاد، وَلَا تَأْثِير للخلطة فِيهَا سَوَاء كَانَت شركَة ملك بِالْإِرْثِ وَالْهِبَة وَالشِّرَاء وَنَحْوهَا، أَو شركَة عقد كالعنان والمفاوضة. ذكره الوبري وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِي رجلَيْنِ بَينهمَا مَاشِيَة نِصَاب وَاحِد، قَالَت طَائِفَة: لَا زَكَاة عَلَيْهِمَا، قَالَ:

الصفحة 10