كتاب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (اسم الجزء: 9)
الثَّانِيَةُ: سَأَلَ هَارُونُ الرَّشِيدُ الْقَاضِيَ يَعْقُوبَ أَبَا يُوسُفَ الْحَنَفِيَّ وَالْكِسَائِيَّ عَنْ رَفْعِ " ثَلَاثٍ " وَنَصْبِهِ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنْ تَرْفُقِي يَا هِنْدُ فَالرِّفْقُ أَيْمَنُ ... وَإِنْ تَخْرَقِي يَا هِنْدُ فَالْخُرْقُ أَشْأَمُ
فَأَنْتِ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ ... ثَلَاثًا وَمَنْ يَخْرَقْ أَعَقُّ وَأَظْلَمُ
فَبِينِي بِهَا إنْ كُنْتِ غَيْرَ رَفِيقَةٍ ... وَمَا لِامْرِئٍ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ مَقْدَمُ
فَمَاذَا يَلْزَمُهُ فِيهِمَا؟ فَقَالَا: إنْ رَفَعَ " ثَلَاثًا " الْأُولَى طَلُقَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا " أَنْتِ طَلَاقٌ " وَأَطْلَقَ، فَأَقَلُّهُ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ أَخْبَرَ ثَانِيًا بِأَنَّ الطَّلَاقَ التَّامَّ الْعَزِيمَةَ ثَلَاثٌ، وَإِنْ نَصَبَهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَمَا بَيْنَهُمَا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَالَ الْجَمَّالُ بْنُ هِشَامٍ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ مَا نَصُّهُ: وَأَقُولُ إنَّ الصَّوَابَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُحْتَمَلٌ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ، أَمَّا الرَّفْعُ: فَلِأَنَّ أَلْ فِي " الطَّلَاقِ " إمَّا لِمَجَازِ الْجِنْسِ نَحْوُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، أَيْ هُوَ الرَّجُلُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ الْمُعْتَدُّ بِهِ فِي الرِّجَالِ، وَإِمَّا لِلْعَهْدِ الذِّكْرَى، كَمِثْلِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] . أَيْ وَهَذَا الطَّلَاقُ الْمَذْكُورُ عَزِيمَتُهُ ثَلَاثٌ، وَلَا تَكُونُ لِلْجِنْسِ الْحَقِيقِيِّ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ عَنْ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ، كَالْحَيَوَانِ إنْسَانٌ، فَهُوَ بَاطِلٌ، إذْ لَيْسَ كُلُّ حَيَوَانٍ إنْسَانًا، وَلَا كُلُّ طَلَاقٍ عَزِيمَةً أَوْ ثَلَاثًا، فَعَلَى الْعَهْدِيَّةِ: تَقَعُ الثَّلَاثُ، وَعَلَى الْجِنْسِيَّةِ: تَقَعُ الْوَاحِدَةُ، كَمَا قَدْ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ تَبَعًا لَهُ، وَأَمَّا النَّصْبُ: فَلِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِهِ مَفْعُولًا بِهِ أَوْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا أَوْ مَصْدَرًا، وَحِينَئِذٍ يَقْتَضِي وُقُوعَ الثَّلَاثِ، إذْ الْمَعْنَى: فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ " وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ " أَوْ لِكَوْنِهِ حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي " عَزِيمَةٌ " وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَالطَّلَاقُ عَزِيمَةٌ إذَا كَانَ ثَلَاثًا، فَإِنَّمَا يَقَعُ مَا نَوَاهُ، وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ، فَأَمَّا الَّذِي قَدْ نَوَاهُ هَذَا الشَّاعِرُ الْمُعَيَّنُ بِقَوْلِهِ فِي شَعْرِهِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيهِ: فَهُوَ الثَّلَاثُ
الصفحة 6
518