كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

فإن قيل: هذه الوجوه باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف: «لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها» ، وهذا الوَصْفُ لا يليق بالملائكة والأنبياء والشُّهداء.
فالجوابُ: قالوا: لا يبعد أن يقال: إنَّهُ تعالى بيَّن من صفة أهْلِ الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر، والسَّبب فيه أنَّهُ تعالى ميّزهم عن أهل الجنَّة وأهل النَّار، وأجلسهم على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنّة في الجنَّة، وأحوال أهل النّار في النَّار، فيلحقهم السُّرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال، ثم إذا استقرَّ أهل الجنَّة في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ، فحينئذٍ ينقلهم اللَّهُ إلى أماكنهم العَالِيَة في الجنَّةِ. فثبت أنَّ كونهم غير داخلين في الجنَّة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم.
وأمّا قوله: «وهمْ يَطْمَعُونَ» والطمع هنا يحتمل أن يكون على بابه أو يكون بمعنى اليقين قال تعالى حِكايَةٌ عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] .
وذلك الطمع طمع يقين، وقال الشَّاعرُ: [المتقارب]
2473 - وإنِّي لأطْمَعُ أنَّ الإلَه ... قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي
القول الثاني: أن أصحاب الأعراف أقوامٌ يكونون في الدرجة النازلة] من أهل الثواب وهؤلاء ذكروا وجوهاً:
أحدها: أنَّهم أقوام تساوت حَسَنَاتُهُم وسيّئاتهم، فأوقفهم الله تعالى على الأعراف، لكونها درجة متوسطة بين الجنَّة والنار، ثم يدخلهم الله الجنَّة بفضله ورحمته، وهذا قولُ حذيفة وابن مسعود، واختيار الفرّاءِ، وطعن الجُبَّائِيُّ والقاضي في هذا القول، واحتجُّوا على فساده من وجهين:
الأوَّل: قالوا: إن قوله تعالى: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] يدلُّ على أنَّ كُلَّ من دخل الجنة فلا بُدَّ وأن يكون مستحقاً لدخولها، وذلك يمنع من القَوْلِ بوجود أقوام لا يستحقون الجَنَّة ولا النَّارَ، ثم إنَّهثم يدخلون الجنة بمحض التفضل، لا بسبب الاستحقاقِ.
الثاني: أنَّ كونهم من أصحابِ الأعْرَاف يدلُّ على أنَّهُ تعالى ميَّزَهُم من جميع أهْل القيامةِ، ثمَّ أْجْلَسَهُمْ على الأماكن العالية [وقيل هذا التشريف لا يليق إلاَّ بالأشراف وأما الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة، فلا يليق بهم ذلك التشريف] .
والجواب عن الأوَّل: أنَّهُ يحتمل أن يكون قوله: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا}

الصفحة 126