كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

كون الذَّاتِ الواحدة متحرِّكَةً سَاكِنَةٌ معاً؛ لأنَّ أقْصَى ما في البابِ أنَّهُ بسبب السُّكُونِ بقي ها هنا وبسبب الحركة حصل في الحيِّزِ الآخر، إلا أنّا لمَّا جوَّزنا أن تحصلَ الذَّاتُ الواحدةُ دَفْعَةً واحدَةً في حيِّزين معاً، لم يبعد أن تكون الذَّاتُ السَّاكِنَةُ هي غَيْرُ الذَّاتِ المتحرِّكةُ، فثبت أنَّهُ لو جَازَ أن يقالك إنَّهُ تعالى ذاته واحدة، لا تقبل القِسْمَةَ، ثمَّ مع ذلك يمتلىء العرشُ منه لم يبعد أن يقال: إنَّ العَرْشَ في نفسه جَوْهَرٌ فَرْدٌ جزء لا يتجزَّأُ، ومع ذلك فقد حَصَلَ في كلِّ تلك الأحْيَازِ، وحصل منه كل العرش، وذلك يُفْضِي إلى فتح باب الجَهَالاتِ.
ومنها قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] فلو كان إلهُ العالم في العرش لكان حَامِلٌ العرشِ حامِلاً للإله؛ فوجب أن يكون مَحْمُولاً حاملاً ومحفوظاً حَافِظاً، وذلك لا يقُولُهُ عاقل.
ومنها قوله تعالى: {والله الغني} [محمد: 38] حكم بِكَوْنِهِ غَنِيّاً على الإطْلاقِ، وذلك يوجب كَوْنَهُ تعالى غنيّاً عن المكان والجهة.
ومنها أنَّ فِرْعَوْنَ لمَّا طَلَبَ حقيقة الإلهِ من موسى - عليه السلام - ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرَّات فإنه قال: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] ففي المرة الأولى قال {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 24] .
وفي المرَّة الثَّانية قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] .
وفي المرة الثالثة قال: {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] . وكلُّ ذلك إشارة إلى الخلاقية، وأمّا فرعون فإنَّهُ قال: {ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} [غافر: 36، 37] فطلب الإله في السَّماءِ، فعلمنا أنَّ وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمَكَانِ والجهة دين موسى وجميع الأنبياء ووصفه تعالى بكونه في السَّماءِ دينُ فرعون، وإخوانه مِنَ الكَفَرَةِ.
ومنها قوله تعالى في هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} .
وكلمة «ثم» للتراخي وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض، فإنْ كان المُرَادُ من الاستواء الاستقرار؛ لَزِمَ أن يقال: أنَّهُ ما كان مستقراً على العرش، بل كان مُعْوَجاً مُضطرباً، ثم استوى عليه بعد ذلك، وذلك يُوجِبُ وصفه بصِفَاتِ الأجْسضامِ من الاضطراب والحركة تَرَاةً، والسُّكون أخرى، وذلك لا يَقُوله عاقِلٌ.

الصفحة 149