كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

أخبر عن قرى كثيرة أنَّها أهلكها [ثم] قال: فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرَّاءُ، وهو: أن الإهلاكَ هو مجيء البَأسِ، ومجيءُ البأسِ هو الإهلاكُ، فلما كانا مُتلازِمَيْنِ لم يبال بأيِّهما قدَّمت في الرتبة، كقولك: «شتمني فأساء» ، وأساءَ فَشَتَمَنِي، فالإساءَةُ والشَّتْمْ شيءٌ واحدٌ، فهذه ستَّةُ أقوال.
واعلم أنَّه إذا حُذِفَ مُضافٌ، وأقيم المضافُ غليه مقامَهُ جاز لك اعتباران:
أحدهما: الالتفاتُ إلى ذَلِكَ المحذوفِ.
والثاني - وهو الأكْثَرُ - عَدمُ الالتفاتِ إليه، وقد جُمع الأمرانِ هنا، فإنَّهُ لم يُراع المحذوفَ في قوله: «أهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا» وراعاهُ في قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} ، هذا إذا قدَّرْنَا الحذفَ قبل «قَرْيَةٍ» ن أمَّا إذا قَدَّرْنَا الحذف قبل ضمير «فَجَاءَهَا» فإنَّهُ لم يراعِ إلاَّ المحذوفَ فقط وهو غيرُ الأكْثَرِ.
قوله: «بَيَاتاً» فيه ثلاثةُ أوْجْهٍ:
أحدها: [أنَّهُ] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر، يقال: بَاتَ يَبِيتُ بيْتاً وبيتة وبَيَاتاً وبَيْتُوتَةً.
قال اللَّيْثُ: «البَيْتُوتَةُ» : «دخولُكَ في اللَّيْلِ» فقوله: «بَيَاتاً» أي: بَائِتينَ وجوَّزوا أن يكون مفعولاً لهُ، وأنْ يكونَ في حكم الظَّرْفِ.
وقال الوَاحِديُّ: قولهك «بَيَاتاً» أي: ليلاً وظاهرُ هذه العِبَارة أنْ تكون ظَرْفاً، لولا أن يُقَالَ: أراد تَفْسِير المعنى.
قال الفرَّاءُ: يقالُ: بات الرَّجُلُ يَبيتُ بَيْتاً، وربَّمَا قالوا: بَيَاتاً، وقالوا: سُمِّيَ البيتُ بَيْتاً؛ لأنَّهُ يُبَاتُ فيه.
قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُو} هذه الجملةُ في محلِّ نصب نَسَقاً على الحال، و «أو» هنا للتَّنْوِيع لا لِشَيءٍ آخر كأنَّهُ قيل: آتاهُ بأسُنَا تارةً لَيْلاً كقوم لوطٍ، وتَارَةً وَقْتَ القَيْلُولَةِ كقوم شُعَيْبٍ. وهل يحتَاجُ إلى تَقْديرِ واوِ حالٍ قَبْلَ هذه الجُمْلَةَ أم لا؟ خلافٌ بين النَّحْوِيِّينَ.
قال الزمخشريُّ: «فإن قُلْتَ: لا يُقَالُ: جاءَ زيدٌ هو فارسٌ» بغيرِ واوٍ فما بالُ قوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} ؟
قلتُ: قدَّر بعض النَّحويين الواو محذوفَةً، وردَّهُ الزَّجَّاج وقال: لو قلتَ: جاءني زيدٌ رَاجِلاً، أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى «واو» ؛ لأن الذِّكر قد عام على الأوَّل.
والصَّحِيحُ أنَّها إذا عُطفَتْ على حالٍ قبلها حذفت الواو استثقالاً؛ لاجتماع حرفي

الصفحة 15