كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثم استوى على العرش] ، أي بعد أنْ خلقهما استوى على عرش الملك والجلال.
قال القَفَّال: والدَّلِيلُ على أنَّ هذا هو المَُادُ قوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر} [الآية: 3] .
فقوله: «يُدبِّرُ» جرى مجرى التَّفسير لقوله: {استوى عَلَى العرش} . وقال {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} ، {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} .
وهذا يَدُلُّ على أنَّ قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} إشارة إلى ما ذكرناهُ.
فإنْ قيل: فإذا حملتم قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} على أنَّ المراد إذا استوى على الملك؛ وجب أن يقالك اللَّهُ لم يكن مستوياً قبل خَلْقِ السَّموات والأرْضِ.
قلنا إنَّهُ تعالى كان قبل خَلْق العَالِمِ قادراً على تخليقها وتكوينها، لا أنَّهُ كان مُكوِّناً ومُوجِداً لها بأعْيَانِهَا؛ لأنَّ إحياء زيد، وإماتَةَ عَمْرٍو، وإطعام هذا، وإرواء ذلك، لا يَحْصُلُ إلا عند حصول هذه الأحْوالِ، فإذا فسَّرْنَا العرش بالملك، والملك بهذه الأحْوالِ صحَّ أن يقال: إنَّه تعالى إنَّما استوى على ملكه بعد خلق السَّموات والأرْض؛ بمعنى أنَّهُ إنَّمَا ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها، بعد خلق السَّمواتِ والأرْضِ.
والقولُ الثاني: أنَّ استوى بمعنى اسْتَوْلَى، كما نَذْكُرُهُ في «سورة طه» إن شاء الله تعالى.
واعْلَمْ أنَّهُ تعالى ذكر قوله: {استوى عَلَى العرش} في سَبْع سور: هاهنا، ويونس [3] . والرعد [2] ، وطه [5] ، والرفرقان: [59] ، والسجدة [4] ، والحديد [57] .
قال ابن الخطيب: «وفي كلِّ موضع ذكرنا فَوائِدَ كثيرةٌ، فَمَنْ ضمَّ تلك الفَوائِدَ بعْضَهَا إلى بَعْضٍ، بلغت مبلغاً كثيراً، وافياً بإزالةِ شبهة التَّشْبيهِ عن القَلْب» .
قوله: {يُغْشِي الليل النهار} قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفض هنا وفي سورة الرعد: [3] «يُغْشِي» مخففّاً من أغْشَى على أفْعَل، والباقون بالتَّشديدِ من غشَّى على فعَّل، فالهمزةُ والتَّضعيف كلاهما للتَّعْدِيَةِ أكسبا الفعل مَفْعُولاً ثانياً؛ لأنَّهُ في الأصل متعد لواحدٍ، فصار الفاعل مفعولاً.
وقرأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسْ: «يَغشَى» بفتح الياء والشين، «اللّيلُ» رفعاً، «النهار» نصباً،

الصفحة 152