كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

هذه رواية الداني عنه، وروى ابنُ جنّي عنه نصب «اللّيل» ورفع «النَّهار» .
قال ابنُ عطيَّة: «ونقل ابن جنّي أثبت» وفيه نظرٌ، من حيث إنَّ الدَّاني أَعْنَى من أبي الفَتْح بهذه الصِّنَاعَةِ، وإن كان دونه في العلم بطبقات، ويؤيد رواية الدَّاني أيضاً أنَّهَا موافقة لقراءة العَامَّةِ من حيث المَعْنَى، وذلك أنَّهُ جعل اللَّيْل فاعلاً لفظاً ومعنى، والنَّهارَ مفعولاً لفظاً ومعنى، وفي قراءة الجماعة اللَّيْلُ فاعلٌ معنى، والنَّهارُ مفعولٌ لفظاً ومعنى، وذلك أنَّ المفعولين في هذا البابِ متى صَلُح أن يكون كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى؛ وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى؛ لئلاّ يلْتبس نحو: «أعْطَيْتُ زَيْداً عَمْراً» فإنْ لم يلْتبس نحو: «أعْطَيْتُ زَيْداً دِرْهما، وكسوْتُ عمراً جُبَّةً» جاز، وهذا كما في الفَاعِلِ والمفعُولِ الصَّريحين نحو «ضرب موسى عيسى» ، و «ضرب زيدٌ عمراً» ، وهذه الآية الكريمة من بابِ «أعطيت زيداً عمراً» ؛ لأنَّ كلاًّ من اللَّيْلِ والنَّهَارِ يَصْلُح أن يكون غَاشياً مَغْشياً؛ فوجب جعل «اللَّيْل» في قراءة الجماعةِ هو الفاعلُ المعنوي، و «النَّهَار» هو المفعول من غير عكس، وقراءة الدَّاني موافقة لهذه؛ لأنَّهَا المصرِّحة بفاعليَّةِ اللَّيْلِ، وقراءة ابن جني مُخَالِفَة لها، وموافقة الجماعة أولى.
قال شهابُ الدِّين: «وقد روى الزَّمَخْشَرِيُّ قراءة حُمَيْدٍ كما رواها أبُو الفَتْحِ فإنَّهُ قال:» يُغَشِّي «بالتَّشديد، أي: يلحق اللَّيْلُ بالنَّهار، والنَّهارُ باللَّيْلِ، يحتملهما جميعاً» .
والدَّليلُ على الثاني قراءةُ حميد بْنِ قَيْس «يَغْشى» بفتح الياء [و] نصب اللَّيْل، ورفع النَّهَارِ. انتهى.
وفيما قاله الزَّمخشريُّ نظر؛ لما ذكرنا من أنَّ الآية الكريمة ممَّا يجب فيها تقديمُ الفاعلِ المَعْنَوِي، وكأن أبا القاسم تَبعَ أبَا الفَتْحِ في ذلك، ولم يَلْتَفِتْ إلى هذه القاعدةِ المذكورة سَهْواً.
وقوله: «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» حالٌ من الليل؛ لأنَّهُ هو المحدَّث عنه أي: يغشي النَّهارَ طالبِاً له، ويَجُوزُ أن يكُون من النهار أي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كُلٍّ منهما.
و «حَثِيثاً» يُحتمل أن يكون نَعْتَ مصدر محذوف أي: طَلَباً حثيثاً وأن يكون حالاً من فاعل «يَطْلُبُهُ» أي: حَاثّاً، أو مفعوله أي: مَحْثُوثاً.
والحثُّ: الإعْجَالُ والسُّرْعَةُ، والحَمْلُ على فِعْلِ شَيءٍ كالحضِّ عليه فالحثُّ والحضُّ أخوانِ، يقال: حَثَثْتُ فُلاناً فاحْتثَّ فهو حَثِيثٌ ومَحْثُوثٌ.

الصفحة 153