كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

وأيضاً قد ثبت في العقليَّاتِ أنَّ الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيَّنِ بالطَّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعلِ المُخْتَارِ، فثبتَ بهذا البرهان العقليِّ أنَّ محرك الرِّياح هو الله - سبحانه وتعالى - وأيضاً فقوله تعالى: «نشراً» أي مُنَشَّرَةً متفرقةً، فجزء من أجزاء الريح يذهب يُمَنْةً، وجزء آخرُ يذهبُ يُسْرَةً، وكذا سَائِرُ أجزاء الرِّياحِ، كلُّ واحد منها يَذْهَبُ إلى جانب آخر، ولا شكَّ أنَّ طبيعة الهواءِ طبيعةٌ واحدةٌ، ونسبة الأفلاكِ والانْجُم والطَّبائع إلى كلِّ واحدٍ من الأجَزْاءْ التي لا تتجزَّأ من تلك الريح نسبة واحدة، فاختصاصُ بعضِ أجْزَاءِ الرِّيح بالذَّهَابِ يمنةً، والجزءُ الآخر بالذَّهَابِ يًسْرَةً يجبُ أن يكُون ذلك بتخصيص الفاعل المُخْتَارِ.
قوله: «بَيْنَ» : ظَرْفٌ ل «يُرْسِلُ» ، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك.
وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي بين يدي المَطَرِ الذي هو رحمته، وحسنُ هذا المجاز أنَّ اليدين تستعملهما العربُ في معنى التقدُمَةِ على سبيل المجاز؛ يقال إن الفتن تحدثُ بين يدي السَّاعةِ يريدونَ قبلها، وذلك لأنَّ يدي الإنسان مُتَقَدِّمَانِهِ، فكل ما يتقَدَّمُ شيئاً يطلق عليه لفظ اليَدَيْنِ مجازاً لهذه المشابَهَةِ، كما تقولُ لمن أحسن إليك وتقدَّم إحسانه، له عندي أيادٍ، ولما كانت الرِّيَاحُ تتقدَّمُ المطر عَبَّرَ عنه بهذا اللفظ.
فإن قيل: قد نجد المطرَ لا يتقدَّمُهُ ريَاحٌ، فنقول: ليس في الآية أنَّ هذا التَّقدُّمَ حاصل في كلِّ الأحوال، وأيضاً يجوز أن تتقدَّمَهُ هذه الرِّياحُ وإن كنَّا لا نعرفها.
قوله: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ} غاية لقوله: «يُرْسِلُ» ، وأقلَّت أي حملت من أقْلَلْتُ كذا أي: حملته بسهُولَةٍ.
قال صاحبُ «الكشَّافِ:» واشتقاقُ الإقلال من القلَّةِ، فإن مَنْ يرفعُ شيئاً فإنَّهُ يرى ما يرفعه قليلاً، أقلَّهُ أي حمله بِسُهُولَةٍ، والقُلَّةُ بضمِّ القافِ هو الظَّرْفُ المعروف وقِلال هَجَرٍ كذلك؛ لأنَّ البعيرَ يُقِلُّها أي يحملها.
وتقدَّم تفسير «السَّحابِ» ، وأنَّهُ يُذكَّر ويؤنَّثُ، ولذلك عاد الضَّميرُ عليه مُذَكَّراً في قوله: «سُقْنَاهُ» . ولو حمل على المعنى كما حمل قوله «ثِقَالاً» فجُمِعُ لقال: «سُقْنَاهَا» .
و «لِبَلَدٍ» جعل الزَّمَخْشَرِيُّ «اللاَّم» للعلَّةِ، أي: لأجل.
وقال أبُو حيَّان: فرقٌ بين قولك: سقتُ له مالاً، وسُقْتُ لأجله مالاً، بأنَّ سُقْتُ له أوْصَلْتُ إليه، وأبْلَغْتَهُ إيَّاهُ، بخلاف سُقْتُهُ لأجْلِهِ، فإنَّهُ لا يلزمُ منه إلاَّ إيصاله له، فقد يسوق المال لغير لأجلي، وهو واضح.
وقيلك هذه اللامُ بمعنى «إلى» ، يقال: هَدَيْتُهُ للدِّين، أو إلى الدِّين. وتقدَّم الخلافُ

الصفحة 168