كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

السَّفَاهَةِ وقلَّةِ العَقْل، فلَّما سفَّهَهُم قابلوه بمثله، ونسبُوهُ إلى السَّفاهةِ، ثم قالوا: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} في ادِّعَاءِ الرِّسالة.
قال ابءنُ عبَّاسٍ: في سفاهة أي تدعو إلى دينٍ لا نقر به.
وقيل: في حُمْقِ، وخفَّةِ عَقْلٍ، وجهالةٍ.
{وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} اختلفُوا في هذا الظن فقيل: المرادُ القَطْعُ والجزم كقوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وهو كثير.
وقال الحسنُ والزَّجَّاجُ: كان ظنّاً لا يقيناً، كفرُوا به ظانين لا متيقّنين وهذا يَدُلُّ على أنَّ حوصل الشَّكِّ والتَّجويز في أصول الدِّين يوجبُ الكفر.
الخامس: قال نوح - عليه السلامُ -: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} .
وقال هود عليه السلام: {وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ} ، فأتى نوح بصيغة الفعل، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل، ونوح - عليه السلام - قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ، وهود لم يقل ذلك، وإنَّما زاد كونه «أمِيناً» ، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب «دلائِلِ الإعْجازِ» أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً.
وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ، والاستمرار على ذلك الفعل.
وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح: 5] .
فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال: «وأنْصَحُ لَكُمْ» .
وأما قول هود - عليه السلامُ -: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً، ويوماً فيوماً.
وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام، فلم يبعد أن يقال: إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور:
أحدها: الرَّدُ عليهم في قولهم: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} .

الصفحة 187