كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

وثانيها: أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة.
وثالثها: كأنَّهُ قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟
والأمين هو الثقة، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد.
واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ، بل قابلها بالحلم، ولم يزد على قوله: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] .
وقوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ، وإنَّمَأ فعل ذلك؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ.
السادس: قال نوحٌ عليه السلامُ: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} إلى قوله: {وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، [وفي قصَّةُ هود حذف قوله: {وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، والفرق أنَّهُ لمَّا ظهر في قِصَّةِ نُوح - عليه السلام - أنَّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة، لم يكن لإعادته في هذه القصَّة حاجة.
قوله: «إذْ جَعَلَكُمْ» في «إذْ» وجهان:
أحدهما: أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ، كأنه قيل: «واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ» ، ومفعول «اذْكُرَوا» محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك: {فاذكروا آلآءَ الله} ، ولأن قوله: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ} ، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «إذْ» مفعول «اذْكُرُوا» أي: اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف.
قوله: «فِي الخَلْقِ» يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم، وعظم أجْسَامِكُمْ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به، أي: في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام.
قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ: «كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستُّون ذراعاً» .
وتقدم الكلامُ على «بسطة» في البقرة.

الصفحة 188