كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

حدثت هذه الإرادة، واعلمْ أنَّ هذا بَاطِلٌ؛ لأنَّ في الآية وجوهاً من التَّأويل.
أحدها: أنَّهُ تعالى أخبر في ذلك الوقت بنزول العذابِ عليهم، فلمَّا حدث الإعلام في ذلك الوقت، لا جرم قال هُودٌ في ذلك الوقت: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} .
وثانيها: أنَّهُ جعل المُتَوقَّع الذي لا بُدَّ من نزوله بمنزلة الواقع، كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] .
وثالثها: أن يحمل قوله: «وقع» على معنى وجد وجعل، والمعنى: إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل.
قوله: «مِن رَّبِّكُمْ» إمَّا متعلق ب «وقع» و «من» للابتداء مجازاً، وإمَّا أن يتعلق بمحذوف لأنَّهَا حال، إذْ كانت في الأصل صفة ل «رجس» .
والرِّجْس: العذاب والسين مبدلة من الزاي.
وقال ابن الخطيب: لا يمكن أن يكون المراد لأنَّ المُرادَ من الغضب العذابُ، فلو حملنا الرِّجْسَ عليه لَزِمَ التَّكْرِيرُ، وأيضاً الرجس ضد التطهير قال تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}
[الأحزاب: 33] والمرادُ التَّظْهِيرُ عن العقائد الباطلةِ.
وإذا ثبت هذا فالمراد بالرجس أنَّهُ تعالى خصّهم بالعقائِدِ المذمُومَةِ، فيكون المعنى أنَّهُ تعالى زادهم كُفْراً ثم خصَّهم بمزيدِ الغضبِ.
قوله: «أتُجَادِلُونَنِي» استفهام على سبيل الإنْكَارِ في أسماء الأصنام وذلك أنهم كانوا يسمون الأصْنَامَ بالآلهة، مع أن معنى الإلهية فيها معدومٌ، سموا واحداً منها بالعُزَّي مشتقاً من العزِّ، والله - تعالى - ما أعطاه عِزّاً أصلاً، وسمُّو آخر منها باللاَّتِ، وليس له من الإلهية شيء.
قوله: «سَمَّيْتُمُوهَا» صفة ل «أسْمَاء» ، وكذلك الجملة من قوله: {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} يُدلُّ على خلوِّ مذاهبهم عن الحُجَّةِ.
و «مِنْ سُلْطَانِ» مفعول «نزَّلَ» ، و «مِنْ» مزيدةٌ، ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكر لهم وعيداً مجرَّداً فقال: فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة الأصْنَامِ إنِّي معكم من المنتظرين.
فقوله: «مِنَ المُنْتَظِريْنَ» خبر «إني» ، و «مَعَكُمْ» فيه ما تقدَّم في قوله: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} ، ويجوزُ - وهو ضعيف - أن يكون «مَعَكُمْ» هو الخبر و «مِنَ المُنْتَظِرِينَ» حال، والتقديرُ: إني مصاحبكم حال كوني من المنتظرين النّصر والفرج من الله، وليس بذلك؛ لأنَّ المقصُودَ بالكلامِ هو الانتظار، لمقابلة قوله: «فانْتَظِرُوا» فلا يُجعل فضلة.

الصفحة 190