كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل.
أما بيان أن النار أفضل من الطين فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات، قوية التأثير والفعل، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال، والفعل أشرف من الانفعال،، وأيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة. وأما الأرضية والبرد واليبس، فهما يناسبان الموت والحياة أشرف من الموت، وأيضا فالنضج متعلق بالحرارة، وأيضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين، وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية، لا جرم كان هذا الوقت أردى أوقات عمر الإنسان.
وأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع.
وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون، فإنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس.
والجواب عنها أن نقول: هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاث: أولها أن النار أفضل من التراب، وهذا قد تقدم الكلام فيه.
قال محمد بن جرير: ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الطين على النار.
وقالت الحكماء: للطين فضل على النار من وجوه:
منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والتوبة والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة والارتفاع والاضطراب وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه اللعنة والشقاوة؛ ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها، [و] لأن التراب سبب الحياة؛ لأن حياة الأشجاء، والنبات به، والنار سبب الهلاك، ولأن التراب يكون منه وفيه أرزاق الحيوان، وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنار لا يكون فيها شيء من ذلك، وأيضا النار مفتقرة إلى التراب، وليس التراب مفتقر إليها، فإن المحل الذي يكون مكونا من التراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التراب، وهي غني عنها.
وأيضا إن النار وإن حصل بها بعض المنفعة فالشر كامن فيها، لا يصدها عنه إلا

الصفحة 32