كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

يهمل الأهم الأكمل الأعظم لأجل زيادةٍ لا حاجةَ إليها ولا ضَرُورةَ.
فَثَبَتَ فساد هذه المذاهب، وأنَّهُ لا يَجِبُ على الله شيء أصلاً.
قوله: «ثم لآتينهم» جُمَْةٌ معطوفةٌ على جواب القسم أيضاً وأخبر أنَّهُ بعد أنْ يَقْعُدَ على الصِّراطِ يأتي من هذه الجهات الأربع، ونوَّع حَرْفَ الجرِّ فَجرَّ الأوَّلَيْن [ «ب» مِنْ «والثَّانيين ب» عَنْ «لنكته ذكرها الزَّمَخْشَرِي. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» فإن قُلْتَ كَيْفَ قيلَ: مِنْ بين أيْديهمْ، ومن خلفهم بحرف الابتداء، وعنْ أيْمَانِهِم، وعن شَمَائِلِهِمْ بحرف المُجاوَزَةِ؟
قلت «: المفعول فيه عُدِّي إليه الفِعْلُ نحو تعديته إلى المفعُولِ به، فكما اختلف حروفُ التَّعْدِيَة في ذلك اختلفت في هذا، وكانت لغة تُؤخَذُ ولا تُقاسُ، وإنَّمَا يُفتش عن صِحَّةِ موقعها فقط، فلما سمعناهم يَقُولُون: جلس عن يمينه، وعلى يمينه، وعن شماله، وعلى شماله قلنا: معنى» عَلَى يَمينِهِ «أنَّهُ تمكَّن من جهة اليمين تمكُّن المُسْتعلِي من المُسْتَعْلَى عليه.
ومعنى» عَنْ يَمينِهِ «أنَّهُ جَلَسَ مُتَجافِياً عن صاحب اليمينِ غير مُلاصِق له مُنْحَرِفاً عنه، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى استعمل في المُتَجَافِي وغيره كما ذكرنا في» تعال «. ونحوه من المفعول به قولهم:» رَمَيْتُ على القَوْسِ، وعن القَوْسِ، ومن القَوْسِ «لأنَّ السَّهْمَ يَبْعُدُ عنها، ويستعليها إذا وضع على كَبدهَا للرَّمْي، ويَبْتَدِىء الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى» في «؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ ويَبْتَدِىءُ الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى طفي» ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ للفعل، ومِنْ بين يديه ومن خلفه؛ لأنَّ الفِعْلَ يقع في بعض الجِهَتَيْنِ كا تقُولُ: جِئْتُ من اللَّيْل تريدُ بعض اللَّيل «.
قال شهابُ الدِّين:» وهذا كلامُ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ في فهم كلامِ العرب «.
وقال أبُو حيَّان: وهو كلامٌ لا بَأسَ به. فلم يوفِّ حقَّهُ.
ثم قال: وأقُولُ: وإنَّما خصَّ بين الأيدي، والخلف بحرف الابتداءِ الذي هو أمكن في الإتْيَانِ؛ لأنَّهُمَا أغلب ما يجيءُ العدوُّ منهما فَيَنَال فرصتَهُ، وقدَّم بين الأيْدِي على الخَلْفِ؛ لأنَّهَا الجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ على إقدام العَدُوِّ وبسالته في مواجهة قِرْنِهِ غير خَائِفٍ مِنْهُ، والخلف جهة غدر ومخاتلة، وجهالة القِرْن بِمَنْ يغتاله، ويتطلب غِرَّتِهِ وغَفْلَتَهِ، وخصَّ الأيمان والشَّمائِلَ بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العَدُوّ، وإنما يجاوز إتْيَانَهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي أغْلَبُ في ذلِكَ، وقُدِّمَتِ الأيمان على الشَّمائِل؛ لأنها هي الجِهَةُ القويَّةُ في مُلاقَاةِ العَدُوِّ، وبالأيمان البَطْشُ والدَّفْعُ، فالقرن الي يأتي من جهتها أبْسَلُ وأشْجَعُ إذ جاء من الجهة الَّتي هي أقوى في الدَّلإْعِ، والشَّمَائِل ليست في القُوِّةِ والدَّفْعِ كالأيمان.

الصفحة 44