كتاب اللباب في علوم الكتاب (اسم الجزء: 9)

وقال الفارسي: «الفتحُ أجودُ؛ لأنَّها في الدِّينِ» ، وعكس الفرَّاءُ هذا، فقال «يُريدُ من مواريثهم، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعاً» .
قوله: «حتَّى يُهاجِرُوا» يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله هذا الوهم بقوله: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} أي: أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية.
قوله تعالى: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} .
لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا «لو استنصروكم فانصروهم» ولا تخذلوهم.
قوله: «فَعَليْكُم النَّصْرُ» مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ «عَلَى» تُشعرُ بالوُجُوبِ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ، وشَبَّهه بقوله: [الطويل]
2741 - عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَريهم ... وعِنْدَ المُقلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ
قوله: {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي: لا يجوز لكم نصرتهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك.
ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ السلمي والأعرج: «يَعْمَلُون» بياء الغيبةِ وكأنه التفات، أو إخبار عنهم.
قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ} الآية.
اعلم أنَّ هذا لترتيبٌ في غاية الحسن؛ لأنَّهُ تعالى ذكر للمؤمنين أقساماً ثلاثة:
الأول: المؤمنون من المهاجرين.
والثاني: الأنصار وهم أفضل النَّاس وبيَّن أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً.
والقسم الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا.
فهؤلاء لهم بسب بإيمانهم فضل، وبسبب تركِ الهجرة لهم حالة نازلة، فيكون حكمهم متوسطاً بمعنى أنَّ الولاية للقسم الأوَّل منفية عن هذا القسم، إلاَّ أنَّهم يكونون بحيثُ لو استنصروا المؤمنين، واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم، فهذا الحكم متوسط بين الإجلال، والإذلال، وأمَّا الكفار فليس لهم ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة،

الصفحة 579