كتاب الكامل في التاريخ - العلمية (اسم الجزء: 9)
@ 471 @
حكى لي إنسان صوفي يقال له أبو القاسم كان مختصا بخدمته في الحبس قال لم يزل مشغولا في محبسه بأمر آخرته وكان يقول كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر فلما اتفق أن مرض قال لي في بعض الأيام يا أبا القاسم إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفني قال فقلت نفسي قد اختلط عقله فلما كان الغد أكثر السؤال عنه وإذا طائر أبيض لم أر مثله قد سقط فقلت جاء الطائر فاستبشر ثم قال جاء الحق وأقبل على الشهادة وذكر الله تعالى إلى أن توفي فلما توفي طار ذلك الطائر فعلمت أنه رأى شيئا في معناه ودفن بالموصل عند فتح الكرامي رحمة الله عليهما نحو سنة ثم نقل إلى المدينة فدفن بالقرب من حرم النبي في رباط بناه لنفسه وقال لأبي القاسم بيني وبين أسد الدين شيركوه عهد من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة فدفنه بها في التربة التي عملها فإذا أنا مت فامض إليه وذكره فلما توفي سار أبو القاسم إلى شيركوه في المعنى فقال له شيركوه كم تريد فقال أريد أجرة جمل يحمله وجمل يحملني وزادي فانتهره وقال مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة واعطاه مالا صالحا ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين وجماعة يقرؤون عليه بين يدي تابوته إذا حمل وإذا نزل عن الجمل وإذا وصل إلى مدينة يدخل أولئك القراء ينادون للصلاة عليه فيصلى عليه في كل بلدة يجتاز بها واعطاه أيضا مالا للصدقة عنه فصلى عليه في تكريت وبغداد والحلة وفيد ومكة والمدينة وكان يجمع له في كل بلد من الخلق ما لا يحصى ولما أرادوا الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلى صوته
( سري نعشه فوق الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائله )
( يمر على الوادي فتثني ماله ... عليه وبالنادي فتثني أرامله )
فلم تر باكيا أكثر من ذلك اليوم فطافوا به حول الكعبة وصلوا عليه بالحرم الشريف وبين قبره وقبر النبي خمسة عشر ذراعا
وأما سيرته فكان رحمه الله أسخى الناس وأكثرهم بذلا للمال رحيما بالخلق متعطفا عليهم عادلا فيهم فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف بمنى وغرم عليه أموالا كثيرة جسيمة وبنى الحجر بجانب الكعبة وزخرف الكعبة وذهبها وعملها بالرخام ولما أراد ذلك أرسل إلى المقتفي لأمر الله هدية جليلة
الصفحة 471
504