كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

يدعوك دعوة ملهوف كأنّ به ... خبلا من الجنّ أو مسّا من النّشر [1]
ممّن يعدّك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العشّ لم ينهض ولم يطر
قال: فبكى عمر، ثم قال: يا ابن الخطفى، من أبناء المهاجرين أنت فنعرف لك حقّهم؟ أم من أبناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم؟ أم من فقراء المسلمين فنأمر صاحب صدقات قومك فيصلك بمثل ما يصل به قومك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنا بواحد من هؤلاء، وإني لمن أكثر قومي مالا وأحسنهم حالا، ولكني أسألك ما عوّدنيه الخلفاء: أربعة آلاف درهم، وما يتبعها من كسوة وحملان، فقال له عمر: كلّ امرىء ملقّى فعله، فأمّا أنا فما أرى لك في مال الله من حقّ، ولكن انتظر، يخرج عطائي فأنظر ما يكفي عيالي سنة منه فأدّخره لهم، ثم إن فضل فضل صرفناه إليك. فقال جرير: لا، بل يوفّر أمير المؤمنين ويحمد وأخرج راضيا، قال: فذلك أحبّ إليّ.
فلما خرج قال عمر: إنّ شرّ هذا ليتّقى، ردّوه إليّ، فردّوه. فقال: إنّ عندي أربعين دينارا وحلّتين، إذا غسلت إحداهما لبست الأخرى، وأنا مقاسمك ذلك، على أنّ الله تعالى يعلم أنّ عمر أحوج إلى ذلك منك. فقال له:
قد وفّرك الله يا أمير المؤمنين، وأنا والله راض، قال له: أما وقد حلفت فإنّ ما وفّرته عليّ ولم تضيّق به معيشتنا آثر في نفسي من المدح، فامض مصاحبا؛ [فخرج] . فقال له أصحابه وفيهم الفرزدق: ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة؟ قال: خرجت من عند رجل يقرّب الفقراء، ويباعد الشعراء، وأنا مع ذلك عنه راض، ثم وضع رجله في [غرز] راحلته، وأتى قومه فقالوا له: ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة؟ فقال: [من الطويل]
تركت لكم بالشام حبل جماعة ... أمين القوى مستحصد العقد باقيا
__________
[1] النشر: جمع نشرة وهي رقية يعالج بها المجنون والمريض.

الصفحة 236