كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

قال: وكان بيد الواثق قلم أو قضيت فلم يزل يفركه حتى كسره، فظننّا أنّ ذلك لغيظه على أحمد. ثم قال: اقطعوا قيد الشيخ، فقطع. فضرب الشيخ بيده إلى القيد فجذبه إليه ومنعه الحدّاد من أخذه، فقال الواثق: دعوا الشيخ يأخذه، فجعله في كمّه، فقال له الواثق: لم أخذته، أحاجة منك إليه؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لكني عقدت في نيّتي إذا حضرني الموت أن آمر من يتولّى أمري أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به يوم القيامة بين يدي ربي هذا الظالم، وأومأ إلى ابن أبي دواد، وأقول يا ربّ، سل عبدك هذا لم قيّدني وروّع ولدي وأهلي؟ فبكى الواثق بكاء شديدا وبكينا حوله. ثم قال له الواثق: يا شيخ، اجعلني في حلّ وسعة ممّا نالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك منذ أوّل يوم في حلّ وسعة إكراما لرسول الله عليه السلام إذ كنت رجلا من أهله. فسرّ الواثق بقوله وقال: يا شيخ، فإنّ لي إليك حاجة؛ قال: قل يا أمير المؤمنين؛ قال: تقيم عندنا فينتفع بك أولادنا ومن معنا. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه أنفع لك من مقامي قبلك رجوعي إلى الثّغر الذي أخرجني منه هذا الظالم. وأخبرك بأوّل منفعة ذلك، وهو أني أكفّ عنك دعاء ولدي وأهلي وإخواني، فإني تركتهم يدعون الله عليك.
فقال الواثق: ههنا حاجة أخرى، قال: قل يا أمير المؤمنين، قال: تذكر كلّ ما تحتاج إليه لمؤنتك ونفقتك ونفقة عيالك، فتأخذه ونجعله لك جاريا يقيمه العامل بتلك الناحية. قال: يا أمير المؤمنين، أنا غنيّ عن ذلك، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا تحلّ الصدقة لغنيّ» [1] ، ولكن لي أنا حاجة يا أمير المؤمنين، قال:
قل ما أحببت؟ قال: تأذن لي الساعة بالمسير؛ قال: قد فعلت، فتزوّد منّا نفقة، قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما لي إليها حاجة كبرت أم صغرت، ولا يراني الله متغنّما مالك، ثمّره الله وألهمك إنفاقه فيما يقرّبك منه.
__________
[1] الحديث «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي» ورد في معظم الصحاح.

الصفحة 254