كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

مكة، فأدخل عليه رجلا، فلم يسلّم عليه بالخلافة، فقال له المنصور: أيّ رجل أنا عندك؟ قال: أنت ما علمت الظالم الخائن المستبدّ بالفيء تأخذه من غير حقّه وتضعه في غير أهله. فاستوى له جالسا وقال: وما علمك أنني ظالم خائن؟ أستقضيت لي فجرت عليك أو على غيرك؟ أو ههنا شيء تدّعي أنّني أخذته منك؟ هذه كتبي في ديواني ومع عمّالي آمرهم بالعدل وإيتاء النّصفة والحقّ، فمن ينكث فإنّما ينكث على نفسه. وهذا عمرو بن عبيد والأعمش وسفيان الثوريّ، أدعوهم إلى عملي فيمتنعون، فأطلب أهل العدالة والأمانة في الظاهر فإذا اختبرتهم وجدتهم خونة فجرة، أفأقدر أن أولّي الملائكة؟ أو ما علمت- لا علّمك الله خيرا- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم شكا بعض عمّاله والوحي ينزل عليه؟ أو ما علمت أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر جماعة من عمّاله أموالهم، منهم سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة؟
وأمّا الفيء الذي زعمت أنّني أستبدّ به وآخذه من غير حلّه، وأضعه في غير أهله، فأخبرني: أمحتاج أنت إليه؟ فإن قلت: نعم، سألنا عمّا ادّعيت، فإن كنت صادقا أعطيناك بقدر ما يكفيك، وكنت الظالم لنفسك إذ لم ترفع إلينا حاجتك، وكان المغيّب عنّا مستورا. وإن كنت كاذبا، فما لك في هذا الفيء نصيب، لأنّ الله تعالى قسمه أقساما لم يجعل فيه لغنيّ حقّا، ولا مثلك يعطى من هذا الفيء وأنت بفناء قبّة امرأتك وحجلتها تتمرّغ على مهادك، وتتثنّى على وسادك، ولا تغزو سبيلا، ولا تجيب أميرا. وبعد، فما يؤمنك أن أبطش بك، فيقول الناس: وعظ أمير المؤمنين فعاقبه؟ فقال له: وددت أنّك عاقبتني. قال:
هيهات! إذن كنت تتّخذ عقوبتي سوقا وتقيمها تجارة، وينظر الناس إليك بعين تعظيم وتبجيل؛ لا والله، ولكن أدعك استهانة بأمرك، واستخفافا بموضعك، فتخرج إلى أصحابك فتقصّ عليهم خبري وخبرك، فإن صدّقوك قالوا:
استضعفه وهان عليه، وكان عنده ممّن لا حجّة له، وإن كذّبوك ضحكوا منك 17 التذكرة الحمدونية 9

الصفحة 257