كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

عنهم؛ وقد كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: من حجب الله عنه العلم، عذّبه على الجهل، وأشدّ منه عذابا من أقبل إليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدى [الله] إليه العلم فلم يعمل به، فقد رغب عن هدى الله؛ فاقبل ما هدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يخلفك منّا إعلام بما تجهل، أو مواطأة على فضل، فقد وطّن الله جلّ اسمه نبيّه على نزولها، تعزية عمّا فات، وتحصينا من التمادي، ودلالة على المخرج فقال وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ*
(الأعراف: 200) فأطلع [الله] على قلبك بما يلوح به الحقّ الذي ينافي الهوى، فإنّك إن لم تفعل، لم تر لله أثرة عليك.
فبكى المهديّ حتى همّ من كان على رأسه بضرب صالح، وحتى ظنّوا أنه يموت. فقال: يا صالح، لو وجدت رجالا يعملون بما آمرهم في رعيّتي، لظننت بأنني ألقى الله تعالى وأمر أمّة محمد صلّى الله عليه وسلم أقلّ ذنوبي وأهون حسابي، ولكن دلّني على وجه النجاة، فإن لم أعمل به، كنت أنا الجاني على نفسي.
قال له صالح: أنت يا أمير المؤمنين أعلم بموضع النجاة.
قال: ما كنت أنت بعظتي أولى مني بعظتك لي، وما هو إلا أن أركب سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يصلح عليها أحد من أهل هذا العصر؛ وذاك أنّ الناس في الزمن الماضي كان يرضى أحدهم بالطّمر البالي، وتقنعه الكسرة اليابسة والماء القراح، وهم اليوم في تضاعيف الخزّ والوشي، ومائدة أحدهم مثل الغنيّ ذي العيال في زمن عمر، فإلى من أكلهم؟ إلى ولد أبي طالب، فو الله ما أرى للمسلمين راحة فيهم ولا فرجا عندهم، ولو أنّني حملت الناس على سيرة العمرين في هذا العصر لكنت أول مقتول، وذلك أنّ الفطام عن هذا الحطام شديد لا يصبر عليه إلا المبرّز السابق.
يا صالح، لقد بلغني أنّ لسعيد بن سلم ألف سراويل، ولحازم ألف جبّة، ولعمارة بن حمزة ألف دوّاج، وهذا أقلّ ملكهم؛ فما ظنّك بي وهم عددي وسهام كنانتي، ومن أشبههم كمعن بن زائدة وعبد الله بن مالك، فلو حملتهم

الصفحة 263