كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

فأجيء بالأسيرين. فوكل به من أمره بالطواف معه في عسكره والاحتفاظ به.
فما زال الشيخ يطوف ويتصفح الوجوه حتى مرّ برجل من بني كلاب قائما يحسّ فرسا له، فقال له: يا فتى اضمنّي للأمير، وقصّ عليه القصة؛ قال:
أفعل. وجاء به معه إلى مسلمة وضمنه فأطلقه. فلما مضى قال: أتعرفه؟ قال:
لا والله! قال: فلم ضمنته، قال: رأيته يتصفّح الوجوه فاختارني من بينهم، فكرهت أن أخلف ظنّه. فلما كان من الغد عاد الشيخ ومعه أسيران من المسلمين شابان، فدفعهما إلى مسلمة، وقال: يأذن الأمير أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله بي، فقال مسلمة للفتى الكلابي: إن شئت فامض معه.
فلما صار إلى حصنه قال له: يا فتى تعلم والله أنّك ابني. قال: وكيف أكون ابنك وأنا رجل من العرب مسلم وأنت رجل من الروم نصراني؟ قال: أخبرني عن أمّك ما هي؟ قال: رومية؛ قال: فإني أصفها لك، فبالله إن صدقت إلا صدقتني؛ قال: أفعل. فأقبل الرومي يصف أمّ الفتى، فما خرم شيئا منها؛ قال:
هي كذلك فكيف عرفت أني ابنها؟ قال: بالشّبه وتعارف الأرواح، وصدق الفراسة، ووجود شبهي فيك؛ ثم أخرج إليه امرأة فلما رآها الفتى لم يشكّ أنّها أمّه لشدّة شبهها به، وخرجت معها عجوز كأنها هي؛ فأقبلتا تقبّلان رأس الفتى؛ وقال الشيخ: هذه جدّتك وهذه خالتك. ثم اطّلع من حصنه، ودعا بشباب في الصحراء، وكلّمهم بالرومية، فجعلوا يقبّلون رأسه ويده؛ قال الشيخ: هؤلاء أخوالك وبنو خالاتك وبنو عمّ والدتك؛ ثم أخرج حليّا كثيرا وثيابا فاخرة، فقال: هذا لوالدتك عندنا منذ سبيت، فخذه فادفعه إليها، فإنها ستعرفه؛ ثم أعطاه لنفسه مالا كثيرا وثيابا جليلة، وحمله على عدّة دواب وبغال، وألحقه بعسكر مسلمة وانصرف.
وأقبل الفتى قافلا حتى دخل منزله وأقبل يخرج الشيء بعد الشيء ممّا عرّفه الروميّ أنه لأمّه، فتراه فتبكي فيقول لها: قد وهبته لك؛ فلما أكثر عليها قالت: يا بنيّ، أسألك بالله من أيّ بلد صار إليك هذا الحليّ وهذه

الصفحة 276