كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

عنها وقد كانت مدّته فيها طالت، فوطئت آثار رجل لم أر أجمل آثارا منه، ولا أعفّ عن الأموال السلطانية والرعية، ولا رأيت رعيّة لعامل أشكر من رعيته له.
وكان عرق الموت الخادم، صاحب البريد بمصر، أصدق الناس له مع هذا، وكان من أبغض الناس [إلي] وأشدّهم اضطراب أخلاق، فلم أتعلّق عليه بحجّة، ووجدته قد أخّر رفع الحساب لسنة متقدّمة وسنته التي هو فيها، ولم يستتمّها بصرفي له عنها، ولم ينفذه إلى الديوان، فسمته أن يحطّ من الدّخل ويزيد في النفقات [والأرزاق] ، ويكسر من البقايا [في كل سنة مائة ألف دينار] ، فامتنع من ذلك؛ وأغلظت له وتوعّدته، ونزلت معه إلى مائة ألف واحدة للسنين كلّها، وحلفت له بأيمان مغلّظة أنني لا أقنع منه بأقلّ منها؛ فأقام على امتناعه وقال: أنا لا أخون لنفسي، فكيف أخون لغيري، وأزيل ما قام به جاهي من العفاف؟ فحبسته وقيّدته فلم يجب، ولم يزل مقيّدا في الحبس شهورا؛ وكتب عرق الموت صاحب البريد بمصر يعرّف المتوكّل ويحلف أنّ أموال مصر ليس تفي بنفقتي ومؤونتي، ويصف أحمد بن أبي خالد، ويذكر ميل الرعية إليه، ويصف عفّته؛ فبينا أنا ذات يوم على المائدة آكل إذ وردت رقعة أحمد بن أبي خالد يسألني استدعاءه لمهمّ يلقيه إليّ، فلم أشكّ أنّه غرض من الحبس والقيد، وقد عزم على الاستجابة لدعائي ومرادي. فلما غسلت يدي دعوته، واستخلاني فأخليته. فقال: أما آن لك أن ترقّ عليّ ممّا أنا فيه من غير ذنب إليك ولا جرم، ولا قديم ذحل ولا عداوة؟
فقلت، أنت اخترت لنفسك هذا، وقد سمعت يميني، وليس منها مخرج، فاستجب لما أريد منك واخرج. فأخذ يستعطفني فجاءني ضدّ ما كنت قدّرته، وغاظني فشتمته، وقلت له: الأمر المهمّ الذي ذكرت في رقعتك أنّك أردت إلقاءه إليّ هو أن تستعطفني وتسخر مني وتخدعني؟ فقال لي: الآن ليس عندك غير هذا؟ [فقلت: لا، فقال: إذا كان ليس عندك غير هذا فاقرأ يا سيدي هذا] [1] ،
__________
[1] زيادة من الفرج بعد الشدة.

الصفحة 297