كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

وأخرج رقعة وكتابا لطيفا مختوما في ربع قرطاس؛ ففضضته فإذا هو بخطّ المتوكّل الذي أعرفه إليّ [يأمرني فيه] بالانصراف وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن أبي خالد، والخروج ممّا يلزمني ورفع الحساب إليه. فورد عليّ [ذلك] أقبح مورد لقرب عهد الرجل بشتمي له، وأنّه في الحال تحت حديدي ومكارهي. فأمسكت مبهوتا، ولم ألبث أن دخل أمير البلد وأصحابه وغلمانه، فوكّل بداري وبجميع ما أملكه وبأصحابي وغلماني وجهابذتي وكتّابي، وجعلت أزحف من الصدر إلى أن صرت بين يدي أحمد بن أبي خالد. ودعا أمير البلد بحدّاد فحلّ قيوده؛ فوثب قائما وقال: يا أبا أيوب، أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد ولا منزل لك فيه ولا صديق، ومعك حرم وحاشية كثيرة، وليس يسعك إلا هذه الدار وإن كانت دار العمالة، فأنا أجد عدّة مواضع وليس لي كبير حاشية، ومن نكبة خرجت، فأقم مكانك.
وخرج وصرف التوكيل عني وعن الدار، وأخذ كاتبي وأشيائي. فلما انصرف قلت لأصحابي: هذا الذي نراه في النوم؟ انظروا من وكّل بنا، فقالوا: ما وكّل بنا أحد، فعجبت من ذلك عجبا عظيما.
قال: وما صلّيت العصر حتى عاد إليّ من كان حمله معه من المتصرّفين والكتّاب والجهابذة مطلقين، فقالوا: أخذ منّا خطوطنا برفع الحساب، وأمرنا بالملازمة وأطلقنا. قال: فازددت تعجّبا؛ فلما كان من غد باكرني مسلّما، ورحت إليه في عشيّة ذلك اليوم، فأقمت ثلاثين يوما، إن سبقني عن المجيء رحت إليه، وإن راح إليّ باكرته، وكلّ يوم تجيئني هداياه وألطافه من البلح والفاكهة والحيوان والحلواء؛ فلما كان بعد ثلاثين يوما جاءني فقال: قد عشقت مصر يا أبا أيوب! والله ما هي طيّبة الهواء، ولا عذبة الماء، ولكن تطيب بالولاية والكسب، ولو قد دخلت إلى سرّ من رأى لما أقمت بها شهرا إلا وقد تقلّدت أجلّ الأعمال. فقلت: والله ما أقمت إلا متوقّعا أمرك في الخروج. فقال:
أعطني خطّ كاتبك بأنّ عليه القيام بالحساب، واخرج في حفظ الله.
قال: فأحضرت كلّ شيء وأخذت خطّه كما أراد، وسلّمته إليه. فقال لي:

الصفحة 298