كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

قال أبو عبد الله محمد بن داود بن الجرّاح: فلما كان عشيّ يومنا ذلك، وخلا وكنت أنا وابناه بين يديه، تحدّث واستروح، ثم قال لنا: سبحان الله! ما أعجب ما كنت فيه اليوم! فلم نسأله عن ذلك إجلالا له. [قال لي أبو أيوب رحمه الله] إنه كان في أيام الواثق في ذلك البلاء والضرب والقيد، وإنه حمل إلى محمد بن عبد الملك الزيات ليناظره ويردّه إلى محبسه. وكان بين يديه على تلك الحال، فجعل يناظره، والحسن بن وهب كاتبه جالس، وربما تكلّم بالكلمة ترقّقه عليه وربما أمسك، ومحمد دائب في الغلظة على أبي أيوب والدي والتشفّي منه، إذ مرّ بعض خدم محمد بن عبد الملك في الدار وعلى كتفه صبيّ قد خضب، وعليه لبوس مثله من أولاد الملوك، فلما رآه صاح بالخادم: هاته، فقرّبه إليه فقبّله وترشّفه وضمّه إليه، وجعل يلاعبه. وحانت منه التفاتة إلى والدي، فإذا دمعته قد سبقته وهو يمسح جبينه بالجبّة الصوف التي كانت عليه، فقال له: ما الذي أبكاك؟ فقال: خير أصلحك الله، إلى أن قال: لا تبرح أو تخبرني بالأمر على حقّه. فلما رأى ذلك الحسن بن وهب قال له: أنا أصدقك؛ لمّا رأى أبو محمد عمر، أسعد الله ببقائه وجعلنا جميعا فداءه، ذكر بنيّا له في مثل سنّه يقال له عبيد الله،- قال: وكانا ولدا في شهر واحد- فالتفت إليه محمد كالهازىء به ثم قال: أتراه يقدّر أن يكون ابنه هذا وزيرا؟
قال الحسن: فلما أمر بحمله إلى محبسه، التفت إليّ وقال: لولا أنّ هذا من أمور السلطان التي لا سبيل إلى التقصير فيها ما سؤتك فيه، ولو أعانني على نفسه لخلّصته. فقال الحسن: فو الله ما رأيته منذ حبس، فإن رأيت أن تأمر بالعدول به إلى بعض المجالس والإذن لي في القيام إليه والخلوة معه لأشير عليه بامتثال أمرك. قال:
فأمر بذلك. فقمت إلى أبي أيوب وتعانقنا وبكينا، فقال لي قبل كلّ شيء: رأيت أعجب من بغيه، ومن قوله بالتباطر والهزء: أتراه يقدّر أن يكون ابنه هذا وزيرا؟
وو الله إني لأرجو- بعون الله- أن يبلغ إلى الوزارة، فيتقدّم إليه عمر هذا متظلّما؛ فلما كان في يومنا هذا، تقدّم إليّ عمر فتظلّم، وما كنت عرفت له خبرا قبل ذلك.

الصفحة 301