كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

طاعتك، وغرس أيّامك. فقال: أمرتك بالتضييق على النبطيّ عمرو بن بهنوي، فقابلت أمري بالضدّ، ووسّعت عليه، وأقمت له الأنزال! فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ عمرا يطالب بأموال عظيمة، فلم آمن أن أجعل محبسه في بعض الدواوين، فيبذل مالا يرغب في مثله فيتخلّص، فجعلت محبسه في داري، وأشرفت على طعامه وشرابه لأحرس لك نفسه، فإنّ كثيرا من الناس اختانوا السلطان، وتمتّعوا بالأموال، ثم طولبوا بها، فاحتيل عليهم ليتلفوا ويفوز بالأموال غيرهم.
قال الفضل: وإنّما أردت بذلك تسكين غضب المأمون عليّ، ولم أعرض الرقعة عليه، ولا أعلمته ما جرى بيني وبين عمرو لأني لم آمن سورة غضبه في ذلك الوقت لاشتداده. فقال لي: سلّم عمرا إلى محمد بن يزداد، فتسلّمه ولم يزل يعذّبه بأنواع العذاب ليبذل له شيئا، فلما رأى أصحابه وعمّاله ذلك وما قد ناله جمعوا له بينهم ثلاثة آلاف ألف درهم، وسألهم عمرو أن يبذلوها لمحمد؛ وصار محمد إلى المأمون متبجّحا بها، فأوصل الخطّ بها إلى المأمون، وكنت واقفا، فقال المأمون: يا فضل، ألم نعلمك أنّ غيرك أقوم بأمورنا، وأطوع لما نأمر به؟
فقلت: يا أمير المؤمنين، أرجو أن أكون في حال استبطائك أبلغ في طاعتك من غيري؛ فقال المأمون: هذه رقعة عمرو بن بهنوي بثلاثة آلاف ألف درهم.
فقلت له- وما اجترأت عليه قطّ جرأتي في ذلك اليوم، فإني أخرجت عليه إضبارة كانت مع غلامي، فأخذت الرقعة منها مسرعا- وقلت: والله لأعلمنّ أمير المؤمنين أني مع رفقي أبلغ في حياطة أمواله من غيري مع غلظته، وأريته رقعة عمرو التي كان كتبها لي وحدّثته حديثه عن آخره، فلما تبيّن الخطّين وعلم أنّهما جميعا خطّ عمرو قال: ما أدري أيّكما أعجب؟ أعمرو حين شكر برّك وطابت نفسه بالخروج عن ملكه بهذا السبب، أم أنت ومحافظتك على أهل النّعم وسترك عليه في ذلك الوقت، والله لا كنتما يا نبطيّان أكرم مني، ودفع إليّ الرقعة التي أخذها محمد بن يزداد من عمرو، وأمرني بتخريقها وبتخريق الأولى، وأنفذ

الصفحة 304