كتاب التذكرة الحمدونية (اسم الجزء: 9)

فأعجبني، فتسمعه وأصلحه، فغنّت: [من الطويل]
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
فصيّرناه مجلسنا، وقالت: قد بقي فيه شيء، فلم أزل أنا وهي حتى أصلحناه، ثم قالت: أحبّ أن تغنّي أنت أيضا فيه لحنا، ففعلت. وجعلنا نشرب على اللحنين مليّا، ثم جاء الحجّاب فكسروا الباب واستخرجوني. فدخلت إلى المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان، وأصفّق وأغنّي الصّوت، فسمع المأمون وندماؤه ما لم يعرفوه فاستظرفوه، فقال المأمون: يا علّويه، ادن وردّده، فردّدته عليه سبع مرّات، فقال لي في آخرها عند قولي:
يروق ويصفو إن كدرت عليه
يا علّويه، خذ الخلافة وأعطني هذه الصاحب.
60- قال المدائنيّ: اصطحب قوم في سفر ومعهم شيخ عليه أثر النّسك والعبادة، ومعهم مغنّ، وكانوا يشتهون أن يغنّيهم ويستحيون من الشيخ إلى أن بلغوا صخيرات [1] الثّمام، فقال المغنّي: أيها الشيخ، إنّ عليّ يمينا أن أنشد شعرا إذا انتهيت إلى هذا الموضع، وإني أهابك وأستحي منك، فإن رأيت أن تأذن لي في الإنشاد أو تتقدّم حتى أوفي بيميني ثم ألحق بك فافعل. قال: ما عليّ من إنشادك! أنشد ما بدا لك، فاندفع يغنّي: [من الطويل]
وقالوا صخيرات الثّمام وقدّموا ... أوائلهم من آخر الليل في الثّقل
فجعل الشيخ يبكي أحرّ بكاء وأشجاه، فقالوا: ما لك يا عمّ تبكي؟ فقال: لا جزيتم خيرا عنّي! هذا معكم طول الطريق وأنتم تبخلون عليّ أن أتفرّج به، ويقطع عني طريقي، وأتذكّر أيام شبابي! فقالوا: لا والله ما كان يمنعنا غير
__________
[1] في الأصل «شجيرات» وفي البيت «صخيرات» وهو الصحيح كما في معجم البلدان لياقوت.

الصفحة 40