كتاب المغني لابن قدامة ط مكتبة القاهرة (اسم الجزء: 9)

أَوْ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الزِّنَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[مَسْأَلَةٌ قَالَ مِنْ الَّذِي يَجِب عَلَيْهِ الْحَدّ]
(٧١٧٢) مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، مِمَّنْ ذَكَرْت، مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ؛ إقْرَارٍ؛ أَوْ بَيِّنَةٍ. فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ إقْرَارُ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُحَدُّ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ، فَارْجُمْهَا» . وَاعْتِرَافُ مَرَّةٍ اعْتِرَافٌ، وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرَّجْمَ بِهِ. وَرَجَمَ الْجُهَنِيَّةَ، وَإِنَّمَا اعْتَرَفَتْ مَرَّةً. وَقَالَ عُمَرُ: إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنْ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الِاعْتِرَافُ. وَلِأَنَّهُ حَقٌّ، فَيَثْبُتُ بِاعْتِرَافِ مَرَّةٍ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْأَسْلَمِيِّينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ . قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟ . قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اُرْجُمُوهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ بِمَرَّةٍ، لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ حَدٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَرَوَى نُعَيْمُ بْنُ هَزَّالٍ حَدِيثَهُ، وَفِيهِ: «حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّك قَدْ قُلْتهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَبِمَنْ؟ . قَالَ بِفُلَانَةَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَهَذَا تَعْلِيلٌ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْأَرْبَعِ هِيَ الْمُوجِبَةُ. وَرَوَى أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، قَالَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ أَقْرَرْت أَرْبَعًا، رَجَمَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُ عَلَى هَذَا، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَإِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ هَذَا مِنْ حُكْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْلَا ذَلِكَ مَا تَجَاسَرَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ، فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ لَفْظُ الْمَصْدَرِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَحَدِيثُنَا يُفَسِّرُهُ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الِاعْتِرَافَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ كَانَ أَرْبَعًا.

[فَصْلٌ الْإِقْرَار بِالزِّنَا هَلْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ شَتَّى]
فَصْلٌ: وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الزَّانِي، يُرَدَّدُ

الصفحة 64