كتاب المغني لابن قدامة ط مكتبة القاهرة (اسم الجزء: 9)

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ.
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، إلَّا رِوَايَةً حُكِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ ذَكَرٌ مُسْلِمٌ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، كَالْحُرِّ. وَلَنَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي شَهَادَتِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْعَدَالَةُ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهَا؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، فَهَاهُنَا مَعَ مَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ، وَلَا مَسْتُورِ الْحَالِ الَّذِي لَا تُعْلَمُ عَدَالَتُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ كُفَّارٌ، لَا تَتَحَقَّقُ الْعَدَالَةُ فِيهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ وَلَا أَخْبَارُهُمْ الدِّينِيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ، أَنْ يَصِفُوا الزِّنَا، فَيَقُولُوا: رَأَيْنَا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ. وَهَذَا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ؛ لِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ «مَاعِزٍ، أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالزِّنَا، فَقَالَ: أَنِكْتَهَا. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْك، فِي ذَلِكَ مِنْهَا، كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ . قَالَ: نَعَمْ.» وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّصْرِيحُ فِي الْإِقْرَارِ، كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ. فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَا، فَنَشَدَهُمَا: كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ؟ . قَالَا: نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجَهَا، مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، رُجِمَا. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا، وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّهُودِ، فَجَاءَ أَرْبَعَةٌ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجْمِهِمَا.» وَلِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَصِفُوا الزِّنَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَاعْتُبِرَ كَشْفُهُ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَجُوزُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى ذَلِكَ مِنْهُمَا، لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا لِيَحْصُلَ الرَّدْعُ بِالْحَدِّ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ قَدْ غَيَّبَهُ فِي فَرْجِهَا كَفَى، وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ. وَأَمَّا تَعْيِينُهُمْ الْمَزْنِيَّ بِهَا أَوْ الزَّانِيَ، إنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ، وَمَكَانِ الزِّنَا، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، لِئَلَّا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهَا، وَيُعْتَبَرُ ذِكْرُ الْمَكَانِ، لِئَلَّا تَكُونَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ

الصفحة 70