كتاب المغني لابن قدامة ط مكتبة القاهرة (اسم الجزء: 9)

[فَصْلٌ كَمَلَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً غَيْرَ مَرْضِيِّينَ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ]
(٧١٨٦) فَصْلٌ: وَإِنْ كَمَلُوا أَرْبَعَةً غَيْرَ مَرْضِيِّينَ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، كَالْعَبِيدِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُمْيَانِ، فَفِيهِمْ ثَلَاثُ؛ رِوَايَاتٍ؛ إحْدَاهُنَّ: عَلَيْهِمْ الْحَدُّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ تَكْمُلْ، فَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ، كَمَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً. وَالثَّانِيَةُ: لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَدَخَلُوا فِي عُمُومِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ قَدْ كَمَلَ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ لِمَعْنًى غَيْرِ تَفْرِيطِهِمْ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مَسْتُورُونَ، وَلَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمْ وَلَا فِسْقُهُمْ.
الثَّالِثَةُ: إنْ كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ بَعْضُهُمْ، جُلِدُوا، وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ فُسَّاقًا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْعُمْيَانَ مَعْلُومٌ كَذِبُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَا لَمْ يَرَوْهُ يَقِينًا، وَالْآخَرُونَ يَجُوزُ صِدْقُهُمْ، وَقَدْ كَمَلَ عَدَدُهُمْ، فَأَشْبَهُوا مَسْتُورِي الْحَالِ. وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ لِمَعْنًى ظَاهِرٍ، كَالْعَمَى، وَالرِّقِّ، وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ فَفِيهِمْ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى خَفِيٍّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مَا يَخْفَى يَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُمْ، بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ.
وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ، حَدُّ الْجَمِيعُ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ كَعَدَمِهَا.
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْأَوَّلِينَ، وَيُنَبِّهُ عَلَى إيجَابِ الْحَدِّ فِيمَا إذَا كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ يُحْتَمَلُ صِدْقُهُمَا، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْأَعْمَى كَاذِبٌ يَقِينًا، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ مَعَهُمْ أَوْلَى.

[فَصْلٌ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا عَنْ الشَّهَادَةِ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ]
(٧١٨٧) فَصْلٌ: وَإِنْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَعَلَى جَمِيعِهِمْ الْحَدُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّانِيَةُ: يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ دُونَ الرَّاجِعِ. وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ، فَهُوَ كَالتَّائِبِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ وَلِأَنَّ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَفِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ زَجْرٌ لَهُ عَنْ الرُّجُوعِ، خَوْفًا مِنْ الْحَدِّ، فَتَفُوتُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ، وَتَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيَ الْحَدِّ عَنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ دُونَ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ فِي قَذْفِهِ، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِرُجُوعِ الرَّاجِعِ، وَمَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ، لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا، فَلَمْ يُحَدَّ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ. وَلَنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَدَدُ بِالرُّجُوعِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَزِمَهُمْ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ، وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ.
وَقَوْلُهُمْ: وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ. يَبْطُلُ بِمَا إذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ، وَبِالرَّاجِعِ وَحْدَهُ، فَإِنَّ الْحَدَّ وَجَبَ ثُمَّ سَقَطَ، وَوَجَبَ

الصفحة 73