كتاب البهجة الوفية بحجة الخلاصة الألفية (اسم الجزء: 1)
اختيارُه العُزلة (¬١):
بالرّغمِ منَ انتفاعِ الناسِ بهِ طبقةً بعدَ طبقةٍ، ورحلتِهِمْ إليهِ منَ الآفاقِ إلّا أنّهُ اختارَ العزلةَ عن النّاسِ في أواسطِ عمرِهِ، فكانَ لا يأتي قاضِيًا ولَا حاكِمًا ولَا كَبيرًا، بلْ هُمْ يقصِدُونَ منزِلَهُ الكريمَ للعِلْمِ والإِفادةِ، وَالاستفتاءِ، وطلَبِ الدُّعاءِ مِنهُ، وإذا قصدَهُ قاضي القُضاةِ أو نائبُهُ لا يأذَنُ لواحدٍ منهُما إلّا بعدَ مرّاتٍ ومُراجعاتٍ في الإذنِ، ودخلَ عليهِ نائبُ الشَّامِ مرةً وطلَبَ مِنهُ الدُّعاءَ فقالَ لهُ: "أَلْهَمَكَ اللهُ العَدْلَ"، فاستزادَهُ فَلَمْ يَزِدْ على قولِه: "أَلْهَمَكَ اللهُ العَدْلَ"، وكانتْ هذهِ دَعوتَهُ لكلِّ مَنْ قصدَهُ منَ الحُكّامِ والقُضاة.
مذهبُهُ في العَطايا والهَدايا والأُجرةِ على الفتيا:
كان أبو البركاتِ رحمهُ اللهُ لا يقبَلُ هدايا الطُّلّابِ مُطلقًا، ولا يأخُذُ أَجْرًا على الفتيا، بل سدَّ بابَ الهديّةِ مُطلقًا خشيةَ أن يُهدي إليه مَن يطلبُ منه إفادةً أو شفاعةً أو فتوى، ولم يقبلْ هدايا مِن أحدٍ إلا من أقربائهِ وأخصّائهِ، وكان يكافئُ على الهديّةِ أضعافًا.
كرمُهُ وسخاؤُهُ وجودُه:
كان رحمهُ اللهُ كريمًا سخيًّا، يُعطي الطلبةَ كثيرًا، ويكسُوهمْ، ويُجري على بعضِهم عطاءً دائمًا، وكان إذا ختمَ كِتابًا أو تصنيفًا أَوْلَمَ وصنَعَ خَتمًا حافلًا ودعا أكابِرَ الناسِ إليهِ وفقراءَهُم وأضافهُم، وساوى في ضيافتِهم بينَ الفقراءِ والأُمراءِ، وكان يُضاعفُ النّفقاتِ في رمضانَ، ويدعو إلى سِماطِه كلَّ ليلةٍ منهُ جماعةً مِن أهلِ العِلمِ والصّلاحِ والفُقراء.
أَمْرُهُ بالمعرُوفِ ونهيُهُ عنِ المُنْكر:
كان رحمَهُ اللهُ يحبُّ الصُّوفيَّةَ ويُكرمُهم، وإذا سمِعَ عنهُم شيئًا مُخالفًا للشَّرعِ بعثَ إليهِم ونصحَهُم، ودعاهُم إلى اللهِ تَعالَى، وكانُوا يمتثِلُونَ أمرَهُ ونُصحَهُ، وكانوا يُقدِّرُونَهُ ويقتدُونَ بهِ رحمَهُ الله.
_________
(¬١) انظر: الكواكب السائرة ٣\ ٣ - ٤ وشذرات الذهب ١٠\ ٥٩٣.
الصفحة 13
448