كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 21)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
ركنت إلى الدنيا ، ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله ، وأن تستحل حرماته ؛ ولكني أحببت أن أعلم رأيك ، فقد زدتني بصيرة ، فانظري فإني مقتول في يومي هذا ، فلا يشتد حزنك ، وسلمي لأمر الله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملاً بفاحشة ، ولم يجر في حكم الله ، ولم يغدر في أمان ، ولم يتعمد ظلم مسلم أو معاهد ، ولم يبلغني ظلم عن عمالي ، فرضيت به ؛ بل أنكرته ، ولم يكن أي آثر عندي من رضاء ربي . اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي ، ولكن أقوله تعزية لأمي حتى تسلو عني .
فقالت : إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلاً ، إن تقدمتني احتسبتك ، وإن ظفرت سررت بظفرك . اخرج عني حتى أنظر إلى ما يصير أمرك ، فقال : جزاك الله خيراً ؛ فلا تدعي الدعاء لي . قالت : لا أدعه لك أبداً ، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق . ثم قالت : اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل ، وذلك النحيب والظمأ في هواجر مكة والمدينة ، وبره بأبيه وبي . اللهم قد سلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثبني فيه ثواب الصابرين الشاكرين .
فتناول يدها ليقبلها ، فقالت : هذا وداع فلا تبعد . فقال لها : جئت مودعاً ، لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا . قالت : امض على بصيرتك ، وادن مني حتى أودعك ، فدنا منها فعانقها ، وقبل بين عينيها ، فوقعت يدها على الدرع ، فقالت : ما هذا صنيع من يريد ما تريد فقال : ما لبسته إلا لأشد متنك . قالت : فإنه لا يشد متني ، فنزعها ، ثم درج كميه ، وشد أسفل قميصه وجبة خز تحت السراويل ، وأدخل أسفلها تحت المنطقة ، وأمه تقول : البس ثيابك مشمرة .
فمخرج من عندها وحمل على أهل الشام حملة منكرة ، فقتل منهم ، ثم انكشف هو وأصحابه ، فقال له بعض أصحابه : لو لحقت بموضع كذا . فقال : بئس الشيخ أنا إذاً في الإسلام أن أوقعت قوماً فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم .
ودنا أهل الشام حتى امتلأت منهم الأبواب ، وكانوا يصيحون : يابن ذات النطاقين ، فيقول : وتلك شكاة ظاهر عنك لؤمها .