كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 22)

"""""" صفحة رقم 271 """"""
كنت مع مولاي المعتضد في بعض متصيداته ، وقد انقطع عن العسكر وليس معه غيري ، فخرج علينا أسد فقصدنا ، فقال لي المعتضد : يا خفيف - أفيك خير ؟ فقلت : لا يا مولاي ، قال : ولا حتى تمسك فرسي وأنزل أنا إلى الأسد ، فقلت : بلى ، فنزل وأعطاني فرسه وشد أطراف ثيابه في منطقته ، واستل السيف ورمى بالقراب إلي ، فأقبل يمشي إلى الأسد ، فحين قرب منه وثب الأسد عليه فتلقاه المعتضد فضربه ، فإذا يده طارت فتشاغل الأسد بالضربة ، فغشيه بأخرى ففلق هامته فخر صريعاً ، فدنا منه - وقد تلف - فمسح السيف في صوفه ، فرجع إلي فأغمد السيف وركب ، ثم عدنا إلى العسكر ، فإلى أن مات ما سمعته تحدث بحديث الأسد ، ولا علمت أنه لفظ منه بلفظة ، فلم أدر من أي شيء أعجب : من شجاعته وشدته أو من قلة احتفاله بما صنع حتى كتمه أو من عفوه عني ، فما عاتبني على ضني بنفسي .
وكان رحمه الله حسن الفراسة صادقاً ، فمن ذلك ما حكاه خفيف السمرقندي قال : كنت واقفاً بحضرة المعتضد إذ دخل بدر وهو يبكي ، وقد ارتفع الصراخ من دار عبيد الله بن سليمان الوزير عند موته ، فأعلم المعتضد بالله الخبر ، فقال : أو قد صح الخبر ؟ أو هي غشية ؟ قال : بل توفي وشد لحينه ، فرأيت المعتضد بالله وقد سجد فأطال السجود ، فلما رفع رأسه قال له بدر : والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الموالاة مجتهداً في خدمتك عفيفاً عن الأموال ، قال : يا بدر - أظننت أني سجدت سروراً بموته ؟ إنما سجدت شكراً لله عز وجل إذ وقفني فلم أصرفه ولم أوحشه ، ورفهت على ورثته ما خلفه لهم من كسبه معي ما يجاوز قيمته ألفي ألف دينار ، وقد كنت عزمت على أخذ ذلك منهم ، وأن استوزر أحد الرجلين : إما جرادة - وهو أقوى الرجلين في نفسي لهيبته في قلوب الجيش ، والآخر أحمد بن محمد بن الفرات وهو أعرف بمواقع الأموال ، فقال له بدر : يا مولاي - غرست غرساً حتى إذا أثمر قلعته ، أنت ربيب القاسم وقد ألف خدمتك عشر سنين ، وعرف ما يرضى حاشيتك ، وجرادة رجل متكبر ويخرج من الجيش جائعاً ، وابن الفرات لا هيبة له في النفوس ، وإنما يصلح أن يكون بحضرة وزير ليحفظ المال ، ومال القاسم وورثته لك أي وقت أردته أخذته ، فراجعه المعتضد وبين له فساد هذا الرأي ، فعدل عن المناظرة إلى تقبيل الأرض مرات ، فقال له المعتضد : قد أجبتك فامض إلى القاسم فعزه بأبيه ، وبشره بتقرير رأيي على استيزاره ، وليسلو عن مصابه ، ومره بالبكور إلى الجامع ، قال خفيف : فولى بدر وخرجت معه فدعاني المعتضد فعدت ، فقال : أرأيت ما جرى ؟

الصفحة 271