كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 22)

"""""" صفحة رقم 62 """"""
ذكر بناء مدينة بغداد وانتقال أبي جعفر المنصور إليها
وفي هذه السنة ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداد ، وسبب ذلك أنه كان قد ابتنى المدينة الهاشمية بنواحي الكوفة ، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكناها لذلك ، ولجوار أهل الكوفة فإنه كان لا يأمنهم على نفسه ، فخرج يرتاد موضعاً لبنائها ، وكان بعض جنده قد تخلف عنه بالمدائن لرمد أصابه ، فسأله الطبيب الذي يعالجه عن سبب حركة المنصور فأخبره ، فقال الطبيب : إنا نجد في كتاب عندنا أن رجلاً يدعى مقلاصاً يبني مدينة ، بين دجلة والصراة تدعى الزوراء ، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتق من الحجاز ، فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق ، ثم أتاه فتق من البصرة أعظم منه ، فلم يلبث الفتقان أن يلتئما ، ثم يعود إلى بناءها فيتمه ، ثم يعمر زمناً طويلاً ويبقى الملك في عقبه ، فقدم ذلك الجندي على المنصور وأخبره الخبر ، فقال : أنا والله كنت أدعى مقلاصاً ثم زال عني ، وسار حتى نزل الدير - هو جوار قصره المعروف بالخلد ، ودعا صاحب الدير والبطريق وغيرهما ، فاتفق رأيهم على عمارتها في موضعها ، وابتدأ بعمارتها في سنة خمس وأربعين ومائة ، وكتب إلى سائر البلاد في إنفاذ الصناع والفعلة ، وأمر أن يختار له من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة ، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة ، وأمر فخطت المدينة بالرماد ، فشقها ورآها ، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار ، ونظر إليها وهي تشتعل ففهمها ، وأمر بحفر أساسها على ذلك الرسم ، ووكل بها أربعة من القواد ، كل قائد على ربع ، ووكل أبا حنيفة بعد الآجر واللبن ، وكان قبل ذلك أراده المنصور على ولاية القضاء والمظالم فلم يجب ، فحلف المنصور أنه لا بد أن يعمل له ، فأجابه أن ينظر في عمارة بغداد ، ويعد الآجر واللبن بالقصب - وهو أول من فعل ذلك ، وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعاً ومن أعلاه عشرين ذراعاً ، وجعل في البناء القصب والخشب ، ووضع بيده أول لبنة وقال : بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، ثم قال : ابنو على بركة الله ،

الصفحة 62