كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 22)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
فلما بلغ السور قدر قامة جاء الخبر بظهور محمد بن عبد الله فقطع البناء وأقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم ، ثم عاد إلى بغداد فأتم بناءها ، وكان المنصور قد أعد جميع ما تحتاج إليه المدينة ، من آلات البناء والخشب والساج وغيره ، واستخلف حين شخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعد سلم مولاه ، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور فأحرق جميع ذلك .
قال : ولما انقضى أمر إبراهيم عاد المنصور إلى بغداد في صفر سنة ست وأربعين ومائة ، واستشار خالد بن برمك في نقض المدائن وإيوان كسرى ، ونقل النقاضة إلى بغداد ، فقال : لا أدري ذلك لأنه علم من أعلام الإسلام ، فقال له : أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم وأمر بنقض القصر الأبيض فنقضت ناحية منه ، فلم يوف ما تحصل من النقاضة بما عزم عليه من الكلفة ، فاستشار خالد بن برمك فقال : كنت لا أرى ذلك قبل ، أما إذ فعلت فأرى أن يهدم لئلا يقال عجزت عن هدم ما بناه غيرك ، فأعرض عنه وترك هدمه ، ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد ، وباباً جيء به من الشام ، وباباً من الكوفة كان عمله خالد القسري ، وجعل المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض ، وجعل لها سورين ، فالسور الداخل أعلى من الخارج ، وبنى قصره في وسطها ، والمسجد الجامع بجانب القصر ، وكان اللبن الذي يبنى به ذراع في ذراع ، ووزن بعض اللبن لما نقص فكان مائة رطل وسبعة عشر رطلاً ، وكانت الأسواق في المدينة فجاء رسول لملك الروم ، فأمر أن يطاف به المدينة ، ثم قال له : كيف رأيت ؟ فقال : رأيت بناء حسناً إلا أن أعداءك معك ، وهم السوقة ، فأمر المنصور بإخراجهم إلى الكرخ .
قال ابن الأثير : وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق والأبواب أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهماً ، وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة ، والروز كاري بجبتين ، وحاسب القواد عند الفراغ وأخذ منهم ما بقي عندهم ، فبقي عند خالد بن الصلت خمسة عشر درهماً فحبسه عليها وأخذها منه .