كتاب علو الهمة

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يُبغضُ كُلَّ جَعْظَرِيٍّ (¬1) جَوَّاظٍ (¬2)، سَخَّابٍ (¬3) في الأسواقِ، جِيفةٍ (¬4) بالليلِ، حِمارٍ بالنهارِ، عالمٍ بأمرِ الدنيا، جاهلٍ بأمرِ الآخرةِ" رواه ابن حبان في "صحيحه".
فما أشد انطباق هذا الحديث على هؤلاء الكفار الذين لا يهتمون لآخرتهم، مع علمهم بأمور دنياهم، وفرحهم بما عندهم منه، كما قال تعالى فيهم: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}، وقال سبحانه: {فأعرِض عمَّن تولَّى عن ذِكرنا ولم يُرِدْ إلا الحياةَ الدنيا ذلك مبلغهُم من العلم}، فهم يجتهدون في العلم بأمور دنياهم، ويُمعِنون في تحصيلها، مع جهلهم التام بأشرف العلوم، وهي علوم الآخرة التي هي شرف لازم لا يزول، دائم لا يُمَل، فجدير بمن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يبغضه الله، ويمقته لشقاوته وإدباره، فالله سبحانه وتعالى كرمهم بنعمة العقل، وميزهم بها على العجماوات، فسخروها أعظم تسخير في كل شيء من أغراض الدنيا الخسيسة؛ كالتأنق في الشهوات والمأكل والملبس والترفه، إلا الشيء الذى خُلقوا من أجله، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، واتباع
¬__________
(¬1) الجعظري: الفظ الغليظ المتكبر، وقيل: هو الذى ينتفخ بما ليس عنده.
(¬2) الجواظ: الجَمُوع المَنوع، وقيل: الكثير اللحم، المُختال في مِشيته.
(¬3) السخاب: السخب والصخب بمعنى الصياح، فالسخاب هو كثير الضجيج والخصام، قال ابن الأثير -رحمه الله-: (وفي حديث المنافقين: خُشُب بالليل، سُخُب بالنهار"، أي إذا جن عليهم الليل سقطوا نيامًا كأنهم خُشُب، فإذا أصبحوا تساخبوا على الدنيا شحًّا وحرصًا) اهـ.
(¬4) جيفة: أي: كالجيفة، لأنه يعمل كالحمار طوال النهار لدنياه، وينام طوال الليل كالجيفة التي لا تتحرك.

الصفحة 73