كتاب علو الهمة

ومن الكفار من يريد الجنة، ويكدح لنيلها، لكنه يخطىء الطريق إليها، إذ يريد دخولها بعد أن سُدَّت كل الطرق المؤدية إليها إلا طريقًا على رأسه خاتم النبين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو يأبى الإيمان برسالته، والانقياد لشريعته، ويكابر في الحق بعد ما تبين، وظهرت أدلته، أو يكتفي بتقليد الآباء والأجداد، والرؤساء والسادات، فيكون جوابه إذا سئل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قبره: "سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلته":
عاشوا كما عاش آباء لهم سَلَفُوا ... وأُورِثُوا الدِّينَ تقليدًا كما وَجَدُوا
لم تنبعث همته للبحث عن الحق، والنظر في الأدلة، في حين أنها كانت تنبعث في الدنيا في طلب سفاسف الأمور وأحقرها، وهؤلاء الذين قال الله فيهم: {وجوه يومئذ خاشعة (¬1) عاملة ناصبة (¬2) تصلى نارًا حامية} الآيات، وقال سبحانه فيهم: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا}، وقال أيضًا: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.
وكيف يعجب مسلم بكافر، ويمدحه بعلو الهمة بسبب أعمالٍ غايتها تعمير الدنيا وإصلاحها.
ثم إن كان قد فعلها تعبدًا دون أن يُسْلِمَ لله -عز وجل- فإنها
¬__________
(¬1) خاشعة: ذليلة بالعذاب.
(¬2) قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم: "هم الرهبان أصحاب الصوامع"، وعن الحسن قال: [لما قدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الشام، أتاه راهب شيخ كبير مُتَقَهِّل (أي شعِث وسِخ)، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: "يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ "، قال "هذا المسكين طلب أمرًا، فلم يُصِبْهُ، ورجا رجاءً فأخطأه"، وقرأ قول الله -عز وجل-: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة}] اهـ. من {الجامع لأحكام القرآن} للقرطبي (20/ 72).

الصفحة 75