كتاب علو الهمة

ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكِّل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم، لا تغزوا فارس، ولا تطعموا أن تقوموا لهم، فإن كان عددٌ لَحِقَ فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قُوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملَّكنا عليكم ملكًا يرفق بكم"، فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي، فقال: (أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعامنا.
وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا: أن يقتل بعضنا بعضًا، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية، كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرتُ لك، فبعث الله إلينا رجلًا معروفًا، نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضُه خير أرضنا، وحَسَبُه خيرُ أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أولَ من تِرْبٍ (¬1) كان له، وكان الخليفة بعده، فقال، وقلنا، وصدَّق، وكذَّبنا، وزاد، ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديقَ له واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمير الله، فقال لنا:
¬__________
(¬1) التِّربُ: بكسر التاء: اللذَة، والسِّنُّ، ومن وُلد معك، والاشارة هنا إلي الصديق الأكبر أبي بكر رضي الله عنه.

الصفحة 86