كتاب مغازي الواقدي (اسم الجزء: 1-3)
وَلَدِهِ، كَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى وَلَدِهِ، وَتَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَكَانَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ: احْمِلْ مَعِي خَمْرًا وَاسْلُكْ بِي الْفَجّ الّذِي سَلَكَ أَبُو حُكَيْمَةَ. فَيَأْتِي بِهِ عَلَى الطّرِيقِ عِنْدَ فَجّ، فَيَجْلِسُ فَيَسْقِيهِ حَتّى يَنْتَشِيَ، ثُمّ يَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ وَإِخْوَتِهِ، ثُمّ يَحْثِي التّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُول لِغُلَامِهِ:
وَيْحَك! اُكْتُمْ عَلَيّ أَنْ تَعْلَمَ بِي قُرَيْشٌ، فَإِنّي أَرَاهَا لَمْ تُجْمِعْ الْبُكَاءَ عَلَى قَتْلَاهَا.
فَحَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ رَجَعُوا إلَى مَكّةَ وَقُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ: لَا تَبْكُوا عَلَى قَتْلَاكُمْ فَيَبْلُغَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ، وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ فَيَأْرَبَ [ (1) ] بِكُمْ الْقَوْمُ، أَلَا فَأَمْسِكُوا عَنْ الْبُكَاءِ! قَالَتْ: وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ- زَمْعَةُ، وَعُقَيْلٌ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ- فَكَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى قَتْلَاهُ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللّيْلِ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟ لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حُكَيْمَةَ- يَعْنِي زَمْعَةَ- فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ! فَذَهَبَ الْغُلَامُ وَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: إنّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرِهَا قَدْ أَضَلّتْهُ. فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ:
تُبَكّي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ ... عَلَى بَدْرٍ تَصَاغَرَتْ الْخُدُودُ [ (2) ]
فَبَكّي إنْ بَكَيْت عَلَى عَقِيلٍ ... وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
__________
[ (1) ] فيأرب: فيشتد. (شرح أبى ذر، ص 163) . أى يشتدون فى طلب الفداء.
[ (2) ] كذا فى الأصل، وب، ت. وفى البلاذري عن الواقدي: «تصاغرت الجدود» . (أنساب الأشراف، ج 1، ص 149) . وفى ابن إسحاق: «تقاصرت الجدود» . والجدود: جمع جد [بفتح الجيم] وهو هنا السعد والبخت. (شرح أبى ذر، ص 163) .
الصفحة 123